كأنهما صخرتان تدحرجتا على السفح عينه من الجبل، لتكونا ظاهرتين متفردتين من صنع الأجيال الشابة للإنترنت. تتمثل الصخرة الأولى بأحزاب الهاكرز Hackers Parties (تترجم عربياً، ضمن تفكير ضيّق، بأحزاب قراصنة الإنترنت) التي فاجأت عالم السياسة في الانتخابات الأوروبية الماضية، واستطاعت هذه الأحزاب أن تعيد الصورة التي سارت عليها أحزاب البيئة في القرن الماضي. ربما لم يشعر كثيرون ممن هم خارج الغرب بأثر ظاهرة «أحزاب قراصنة الإنترنت». ومن المهم القول بأن «حزب الهاكرز» السويدي، هو الذي يؤمن حماية للكومبيوتر الرئيسي الذي يعمل عليه موقع «ويكيليكس»! أما الصخرة الثانية التي أطلقها جبل الهاكرز عينه، فقد هزّت العالم بقوة، ربما بأكثر مما يفعله ارتطام كويكب بالكرة الأرضية أو زلزال من وزن ما حصل في هايتي مطلع هذا العام. لا أقل من هذه الكلمات في وصف الأثر الذي يوّلده موقع «ويكيليكس» WikiLeaks، الذي صار جزءاً من مفردات الحياة اليومية على امتداد الكوكب الأزرق. وفي العالم العربي، قيل الكثير عن «ويكيليكس»، خصوصاً بعد سيل الوثائق عن الحرب في العراق. ولكن، لم يقل عربياً إن هذا الموقع وُلِد من رحم ظاهرة الهاكرز التي أعطى «ويكيليكس» مثالاً آخر على تخلّف التفكير العربي بصددها. ويمتد خيط الحرية الرقمية والحق في الحصول على المعلومات (والوصول إليها)، ليصنع رابطاً بين أحزاب الهاكرز وموقع «ويكيليكس». وكلاهما قُدّتا من الجبل الذي يصنعه جيل شباب الكومبيوتر، في سياق سعيه لرسم صورة الحقوق الإلكترونية والحريات المرتبطة بها، إضافة الى نحت صورة عميقة لصحافة الإنترنت. وبذا تظهر هذه الصحافة سماتها المميّزة باعتبارها مزيجاً من سعي للحرية الرقمية وتملّك لتقنيات الكومبيوتر، واحتراف السعي إلى نشر المعلومة إخبارياً. هل ينظر مستقبلاً إلى «ويكيليكس» كبداية لصحافة تحمل فعلياً المزايا العميقة للوسيط الرقمي وشبكاته؟ هل يقال مستقبلاً إن جوليان أسانغ، مؤسس موقع «ويكيليكس» هو أول صحافي للإنترنت فعلياً، بمعنى أنه اجترح صحافة في الوسيط الرقمي الإعلامي، فجاءت مشبّعة بصفات الفضاء الافتراضي للإنترنت، إذ يصعب أن تصنع إلا بتقنيات الرقمي وفضاءاته؟ «أنا صحافي وناشر ومبتكر». بتلك الكلمات، التي تشبه صرخة تمزج الإعلان بالتحدي، يصف جوليان أسانغ نفسه، بحسب ما ورد في لقائه مع مجلة «تايم» الأميركية أخيراً. هل هذا الأسترالي الباهت الوجه والأشيب الشعر والفائض الحيوية، يوشك أن يصنع مستقبل الصحافة الإلكترونية، عبر موقع ينشر مئات آلاف الوثائق، فيهزّ عالم السياسة والحرب والاقتصاد والثقافة والصحافة في آن معاً؟ بداية، لا بد من توضيح ألّا علاقة تربط «ويكيليكس» والموسوعة الرقمية المفتوحة «ويكيبيديا» الذائعة الصيت، على رغم التشابه الكبير في الأسماء. لا علاقة بين الاثنين، ولا حتى في أسلوب العمل على شبكة الانترنت. في رعاية قراصنة الإنترنت بالعودة الى العلاقة مع صحافة الانترنت، يمكن القول إن ما صنعه موقع «ويكيليكس» الذي أسّسه أسانغ في عام 2006، يتقاطع مع العمل البديهي الأساسي الذي ارتكزت إليه الصحافة (ثم مجمل الإعلام العام): نشر المعلومة وإيصالها الى الرأي العام. ما الذي يحاول أسانغ فِعله عبر نشر هذه الوثائق؟ لنتذكر أولاً أن وثائق «ويكيليكس» عن الحربين في أفغانستان والعراق صنعت الخبر بقدر ما نقلته، كأنها تعود الى المعنى العميق للصحافة وتجدده، باستخدام الوسيط الالكتروني في شبكة الانترنت. ابتدأ أسانغ (39 سنةً) حياته بالتفوق أكاديمياً، خلال دراسته الفيزياء في جامعة ملبورن الاسترالية. ثم بدأت حياته تسير في اتجاه جعلها قصة فريدة من نوعها في زمن الانترنت. ففي مستهل شبابه، تحوّل الى «هاكر» بارع وذائع الصيت. ومهر في مجال اختراق نُظُم الكومبيوتر، إلى حدّ أن أصدقائه في الثانوية والجامعة وصفوه بأنه يتمتع بمعدل ذكاء يليق بنابغة. وعندما بلغ العشرين، اخترق شبكة الكومبيوتر في شركة «نورتل» الكندية للتلفزة. وسرعان ما ألقي القبض عليه. واستطاعت المحكمة أن تثبت ارتكابه 26 مخالفة. وأقرّ بما فعل. واكتفت المحكمة بتغريمه مبلغاً زهيداً، مع ملاحظة خاصة من القاضي أشار فيها إلى حشريته الفكرية الفائقة الذكاء. أي صحافة يحاولها هذا المتمرد السويدي، الذي جعل العيون تقرأ أخباراً غير مألوفة مثل وصف البنتاغون لوثائق «ويكيليكس» بأنها أضخم عملية اختراق لأمن المعلومات العسكرية في تاريخ الولاياتالمتحدة، ومطالبة الأممالمتحدة ودول حليفة (مثل بريطانيا) ومؤسسات دولية متنوّعة، الولاياتالمتحدة بالخضوع لتحقيق واسع عن أعمال قواتها في العراق! سرّ الملف المُشفّر «أنا صحافي... وأحاول ابتكار نظام يحلّ مشكلة الرقابة على الصحافة، ومشكلة الرقابة التي تمارس على الصحافة المتحديّة عالمياً». بكلماته هذه، حاول أسانغ أن يلقي الضوء على أسئلة كثيرة رافقت إطلاق وثائق «ويكيليكس». فمثلاً، بعد أن كشف قرابة 90 ألف وثيقة عن حرب أفغانستان، ظهر على هذا الموقع ملف مُشفّر وضخم الحجم. وعبثاً حاول كثيرون معرفة محتوى ذلك الملف الضخم، لكن شيفرته، التي صنعها الهاكرز بدت عصيّة تماماً. وتسرّبت أخبار عبر مُدوّنات إلكترونية ومواقع للهاكرز تقول ان أسانغ تعمّد وضع هذا الملف المُشفّر لحماية نفسه، بمعنى أن الملف يتضمن أسراراً يهدد صاحبها بكشفها، في حال حدوث مكروه له. والمعلوم أن أسانغ كرّر، في غير لقاء إعلامي، الحديث عن محاولة قوى كبرى أن تشلّ نشاطه، إضافة إلى القصص عن هربه المستمر وتخفّيه الدائم، التي تبدو أقرب إلى الخيال، لكن صاحبها يصرّ على أنها حقيقية. وبعد نشر الوثائق عن حرب العراق، نشر موقع «موني بوكرز. كوم» moneybookeers.com، خبراً مفاده أن الولاياتالمتحدة واستراليا، وضعتا «ويكيليكس» على ما يشبه قائمة سوداء مالياً، بهدف خنقه اقتصادياً عبر منع التبرعات والعطايا والهبات، التي يتلقاها من جهات متعددة. والمعلوم أيضاً عن أسانغ أنه لا يقيم في مكان ولا يحلّ في بيت، ويبدو «على قلق» من مقامه الريح، بحسب وصف شهير للمتنبي. لا يستعمل أسانغ بطاقات الائتمان، كي لا تكشفه، وذاك ما يذكر باستعمال تلك البطاقات في تتبع مشتبه بهم في قضية مصرع محمود المبحوح في دبي. وعلى غرار ما يفعله كثير من نشطاء «العالم التحتي» (وضمنه تنظيم القاعدة)، يفضل أسانغ استعمال المال الورقي «كاش» مباشرة. يميل الى سكنى الأماكن النائية. فقد أجرت مجلة «تايم» مقابلة معه، أثناء إقامته الموقتة في مدينة ريكيافيك، القريبة من القطب الشمالي، مع الإشارة الى ان الكومبيوتر الرئيسي ل «ويكيليكس» يعمل انطلاقاً من السويد. هل استطاع الملف المُشفّر الذي وُضع على موقع «ويكيليكس» بعد كشف وثائق أفغانستان، أن يحميه؟ على الأرجح نعم. هل يعرف أحد بمحتوى ذلك الملف، الذي تبيّن لاحقاً أنه يحتوي وثائق عن حرب العراق، التي يقول البنتاغون أن «ويكيليكس» لم يفرغ من نشرها بعد؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال. إذ كيف تسنى لحلف الناتو معرفة ان تلك الوثائق ستضرّ بأميركيين وعراقيين قبل نشرها؟ إلى ما استند الأمين العام لحلف الأطلسي، أندرياس فوغ راسموسن، عندما أعلن أن كشف وثائق «ويكيليكس» يعرّض قواته للخطر، وكرر ذلك مرتين: قبل كشف وثائق أفغانستان، وعشية كشف وثائق العراق؟ هل يعني ذلك ان الحلف علم بالوثائق المتسربة سلفاً؟ هل توصّل إلى ذلك بالقدرات الإلكترونية الهائلة التي يملكها ذلك الحلف، أم إن الموقع اتّصل بالحلف قبل الكشف عن المواقع؟ تقول رواية أكثر شيوعاً أن عسكرياً أميركياً سرّب الوثائق الى «ويكيليكس»، قبل اعتقاله والتحقيق معه. إن صحّت هذه الرواية، فهل وُضع الملف المُشفّر على الانترنت، للضغط على التحقيق؟ الأسئلة كثيرة. وتوضّح صيغها ان عمل أسانغ، يشبه كثيراً ما يفعله المحققون الصحافيون المتمرّسون، والطُرُق التي يتبعونها في الحصول على معلومات مكتومة، والتشابكات التي ترتسم في عمل المحقق الصحافي المتمرّس، بما فيها العلاقات مع المؤسسات وأجهزة الاستخبارات والأمن وغيرها. بداية لصحافة رقمية مغايرة هل الصحافة الرقمية هي الحدود القصوى التي يحاول الوصول إليها، عبر نشر ما يزيد عن نصف مليون وثيقة مصنّفة أنها سرية، عن حربين صنعتا الحدث في عالم ما بعد 11/9؟ ماذا لو نُظِر إلى أفعاله باعتبارها عملاً صحافياً، بالأحرى ما الذي لا تمتلكه أعمال «ويكيليكس» من صفات الصحافة؟ نشر الموقع الذي يديره أسانغ بطريقة غامضة، إذ يتنقل بين أربعة مواقع يسمي أحدها «المخبأ»، أخباراً ومعلومات لم يكن يعرفها الرأي العام، فاهتزّ عالم السياسة بقوة. ورأى قائد قوات حلف شمال الاطلسي ان الوثائق تعرّض قوات الناتو للخطر. ورأت فيها المستشارة الألمانية انغيلا ميركل عملاً يعرّض الجهود المبذولة في العراق وافغانستان للخطر. واعترفت إيران بأنها أحست بالإهانة لما نشر عن دورها في العراق وافغانستان. وأقرّ الرئيس الأفغاني حامد كرزاي بأنه تلقى أموالاً إيرانية لم يكن يذكرها قبل ان تكشفها أخبار «ويكيليكس». واعتبر رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته نوري المالكي انها ضربة موجّهة له. ودعت جهات عراقية ودولية الى محاكمات عن مقتل المدنيين على حواجز الجيش الاميركي. وضجّ الإعلام العام أميركياً بما أظهرته الوثائق من سقوط ل «التفوق الاخلاقي» لحروب أميركا المعاصرة وغيرها. ألا يشكل هذا عملاً صحافياً نموذجياً؟ وتكتمل صورة أسانغ باعتباره من صُنّاع الصحافة الالكترونية المعاصرة، إذا تذكرنا أنه ابتدأ حياته ك «هاكر»، ووصل الى صنع عمل صحافي يظهر فيه مزايا الوسيط الالكتروني بامتياز، بعد سنة من ظهور أحزاب الهاكرز في أوروبا الغربية، خصوصاً ألمانيا والبلدان الاسكندنافية. وبقول آخر، يعطي «ويكيليكس» نموذجاً قوياً ومتقدماً من صحافة تعمل بالاستناد الى التمرّس بتقنيات الوسيط الرقمي وشبكاته. وكملمح آخر من العلاقة العميقة التي تربط صحافة الانترنت بطريقة «ويكيليكس» مع الهاكرز، يكفي القول إن «حزب الهاكرز» السويدي يقدّم حماية مباشرة لل «سيرفر» الذي يعمل «ويكيليكس» انطلاقاً منه. واستطراداً، يجدر القول ان هذا الحزب يسعى لتغيير قوانين الصحافة والملكية الفكرية، بما يعطي للأفراد حرية أوسع في الوصول الى المعلومات ونشرها على الانترنت. في العالم المعاصر، لا أحد يعامل ظاهرة الهاكرز باستهزاء سوى العالم العربي! وإذ ينحصر النقاش العربي القليل عن ظاهرة الهاكرز بالمساحة الضيّقة من اللعب على الكلمات (هاكرز= قراصنة، ما يعني إدانة جاهزة)، يميل معظم الدول لنسج شبكة معقدة مع هذه الظاهرة، بداية من «الاحتضان» الروسي ومروراً بكتائب الهاكرز وميليشياتهم في الجيش الصيني، ووصولاً الى تبني الشركات الأميركية العملاقة (وكذلك البنتاغون) لحلقات الهاكرز للاستفادة منها اقتصادياً وتقنياً واستراتيجياً وعسكرياً. يأتي نشر الوثائق على موقع «ويكيليكس» ليضيف بعداً آخر لظاهرة الهاكرز: هل هؤلاء هم صحافيو المستقبل الرقمي، باعتبارهم الاستمرار الفعلي لمهنة البحث عن المتاعب في الفضاء الافتراضي، والامتداد العميق لمهنة التجارة بالأخبار، بحسب الوصف الأصيل للصحافة والإعلام؟