من حق العمالة الفيليبينية أن «تتمغط» و«تتدلع» وتحط رجلاً على رجل، حينما يتم استقدامها من بلدانها من أجل العمل في السعودية، بل وتضع الشروط التي تريدها، فهي تعرف قيمتها وموهبتها وكذلك إخلاصها ووفاءها في العمل، وحينما ينتهي عملها هي تعرف أن الطلب عليها كبير لهذا لا تجد عاملاً أو عاملة فيليبينية تهرب من الجوازات أو هاربة من كفيلها، أو تعيش بطريقة مخالفة لنظام الإقامة، وإذا ما وجد فهم قليلون جداً من الذين لا يعرفون مكانتهم وقيمتهم، أو إذا كانت الشركة أو المؤسسة التي يعملون فيها قد أخلت بالنظام، أو تأخرت في تسليم رواتبهم، إلا أن هذه العمالة استطاعت أن تفرض نفسها علينا بخبرتها وقدرتها. حينما كنت منوماً في المستشفى قبل عام صادقت ممرضة فيليبينية، إذ كنت أنتظر مجيئها يومياً أو وقت دوامها، لكي تحقنني في الوريد، ويدها كانت مريحة وسهلة، لم أشعر بآلام الإبرة، بصرف النظر عن الممرضات الأخريات من جنسيات أخرى، فقد كنت أخاف منهن، أولاً في بحثهن عن الوريد، أو قسوتهن في ضرب الإبرة، بينما صديقتي الممرضة الفيليبينية كانت تبتسم أولاً حينما كانت تراني، وبعدها تطمئنني، ومن ثم تبدأ في فرك معصمي للبحث عن وريد، وبكل ثقة كانت تعطيني الإبرة، من دون أن أشعر بالألم، حتى بعد مغادرتي للمستشفى اتصل بها من وقت إلى آخر، ويحدثني زوجها، وإذا أرادت أن تسافر تسألني إن كنت أحتاج شيئاً من هناك. نعم لدينا جنسيات عدة تعمل في السعودية ومختلفة، إلا أن معظمها لم تترك أثراً إيجابياً في سوق العمل مثلما فعل الفيليبينيون، من حيث الكفاءة والإخلاص والانضباط بالقوانين والأنظمة، والأهم من هذا أن الفيليبين قدمت نفسها كدولة مصدرة للعمالة المهنية المدربة في مجال الميكانيكا والكهرباء والحرف المهنية واليدوية وأعمال التمريض والرعاية الصحية والإدارية والضيافة، إضافة إلى قلة مشكلاتهم أو مخالفاتهم. قرأت في شباط (فبراير) الماضي أن إدارة المهاجرين حذرت رعاياها في السعودية من الاحتفال بعيد الحب «الفالنتاين»، وهذا يعني أن العمل أهم من أي احتفال آخر، ويعجبك نظامهم ونظافتهم وأسلوب تعاملهم مع الآخرين. بالطبع أنا لا أعمل دعاية للعاملة الفيليبينية، وليس لي مكتب استقدام حتى أروج عنهن، إلا أنه من الحق أن نذكر محاسن سوق العمالة في السعودية، لن تجد فيليبينيا بائعاً في سوق الخضار، أو حارساً في عمارة، أو حتى كهربائياً في محل، كما أن المرأة الفيليبينية قليلاً ما تسمع أنها هربت من مخدومها أو كفيلها، أو لديها مشكلات مع أسرة. سألت صديقتي الممرضة الفيليبينية عن سبب حبها للعمل وإخلاصها، قالت لي تعلمنا في بلادنا أن المال الذي نكسبه ونحوله إلى بلادنا هو مصدر اقتصادنا، والمنافسة على استقطاب العمالة من كل الجنسيات كثيرة، والناس تبحث عن العمالة الرخيصة، بينما نحن الفيليبينيين نتميز بجودة العمل والإتقان، والسبب في هذا أن معظم مراكز التدريب تعمل على تأهيلنا للعمل في الخارج، كما أن الحكومة تقف مع عمالتها في الكثير من المشكلات التي تنتج، كما أنها علمتنا في حال وجود مشكلات مع الكفيل أو المؤسسة نلجأ إلى الجهات القانونية لأخذ حقنا. ما دعاني للحديث عن العمالة الفيليبينية، التصريح الصحافي الذي صدر قبل يومين مطالباً القنصلية الفيليبينية بوضع بنود جديدة على عقود العمل تتضمن اختيار العامل للمخدوم، كأحد شروط استقدام العاملات للعمل في المنازل، وعلى رغم أن الشرط الذي وضعته القنصلية صعب بالنسبة للسعوديين الذين تعودوا أن يكونوا مخدومين ولا يريديون من أحد أن يطلب منهم: «يا مدام تلحلحي من مكانك»، أو «قوم يا أخي فرش أسنانك»، أو عبث الأطفال والدلع الزائد مع العاملات، أساليب أظنها لا ترضي العاملات، خصوصاً الفيليبينيات، لهذا لجأت القنصلية إلى وضع هذا الشرط على الأقل يمكن أن تستطيع العاملة معرفة طبيعة مخدومها من الصورة، فنحن سمعتنا في تعاملات العاملات المنزليات صارت مثل سمعة السودان لدى الأممالمتحدة حول تعاملها مع سكان دارفور، وأستغرب من مكاتب الاستقدام التي تهدد دائماً بأنها ستغير اتجاه الاستقدام لجنسيات أخرى حال بقاء هذه الشروط كما هي، وكأن عمال وعاملات العالم تحت رحمة وظائفنا حتى نخالف ونشترط، وقد رأينا كيف أن استيراد العمالة الرخيصة وغير المؤهلة تأثيرها على سوق العمل، من رداءة الأعمال والحوادث المتكررة، والمخالفات الكثيرة، ولم تنفعنا احتكار المهن والوظائف من جنسيات مختلفة، فقد خلفت لنا سوقاً سوداء وأعمالاً رديئة ومجتمعاً منغمساً في المخالفات وعمالة تولد عمالة. سوق العمل في السعودية بحاجة إلى غربلة وغلق أبواب لعمالة رديئة غير مهنية، ويجب أن تنظر في هذا الموضوع لجنة عليا مهمتها تقويم سوق العمل، وإخراج ما هو رديء، وفتح الأبواب أمام جنسيات بالفعل تفيد المجتمع، ويجب ألا ننظر إلى تدني الرواتب، فجميع المجتمعات لدى مواطنيها طموح بأن تعيش عيشة كريمة وتدرس وتتعلم، ولا ترضى أن تعيش طوال حياتها تحت مهانة ومذلة الرواتب الضئيلة الضعيفة. أما أن نبقي أبوابنا مفتوحة هكذا لكل من هب ودب، ويقول لنا إنه يعرف كل شيء ويصلح كل شيء؛ فهذا لص يريد أن يسرقنا، يزعم مهارته في كل شيء، بل في الحقيقة انه يريد أن يخرب كل شيء يقع تحت يده. العمالة الفيليبينية اكتسبت احترام الكثير من الناس في الدول التي عملت فيها، كعمالة مهنية مدربة، كما أنها قدمت لنا نموذجاً للتجارب المهنية الرائعة، وفي ظني من حق الفيليبينيين أن «يتدلعوا» أو «يتغنجوا»، ما دمنا مسرورين بعملهم. وأعتقد أن الزميل عبدالله المغلوث حينما كتب قبل عامين: «تخيلوا العالم بلا فيليبينيين»، كان صادقاً حينما طرح في مقاله أننا من دونهم سنضيع. * إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected]