الأحد 10/10/2010: زجاج اللحظة أسوأ ما عندنا، صورة ما لا نريد وما هرب منه أجدادنا. مع الأسوأ نكسر ما بنينا على الشاطئ، مفضلين زجاج اللحظة على حجارة الأمس المنقوشة بالسهر والمشاورة. هذا الآتي من بعيد، نقلّده العرش الفارغ. مات ملوكنا على أحصنة التعب وما جلسوا. ها هو يتربع على كرسي يجهل، ويكتب شعارات الشوارع الخلفية. يعطينا ما لا يملك وما لا نرغب فيه. هل وصلت الهدايا؟ الى مائدة الوهم نرسم ابتسامات الشفاه، والوهم لن يكون الحقيقة أبداً. ليس من بيتنا هذا الأسوأ، يأتي إلينا وما استدعيناه. فجأة، هذا الفراغ مثل هواء حبيس في طابة، لا مكان لهواء ولا لفراغ. لعبة فيزياء وفلسفة؟ كتاب الأجرومية وكتاب حرفوش لتعليم الفرنسية في قبو البيت الأبوي. كم سهرنا في ضوء القنديل عيوننا على نجم الغرب وما طلع لنا صباح. ضيعنا الترقيم فقرأنا من الآخر الى الأول، وخرجنا من الكتاب الى ما قبل القراءة. أسوأ ما طرأ علينا أعلناه بفخر على الدنيا ولن يعذرنا أحد، وسيبدأ الشك في أننا هنا وفي أن أسماءنا قبل أسماء الآخرين. هل نصدق أنفسنا ليصدقنا الغير؟ ليس من منطق بارد. النهايات تأتي فجأة، مثل صاعقة، مثل إغفاءة عجوز في سهرة شبابية. الاثنين 11/10/2010: بديعة كشغري في مطلع العام 1900 وقف فرح أنطون أمام شلالات نياغارا ملقياً خطاب القرن العشرين (نشره في مجلته «الجامعة» التي نقلها من الاسكندرية الى نيويورك). في مطلع العام 2000 كانت الشاعرة السعودية بديعة كشغري مقيمة في أوتاوا (كندا) تشهد احتفالية للقرن الحادي والعشرين. بديعة كشغري كتبت قصيدة، فيما كان خطاب فرح أنطوان محاولة استشراف لتغيرات البشر. قصيدة بديعة كشغري «فجر الألفين» واردة في مجموعتها الشعرية «شيء من طقوسي» الصادرة عن دار الكنوز الأدبية في بيروت، ومنها هذا المقطع: «على ضفاف الساعة الأولى من عام ألفين كنت وحيدة ألتقي كوكب الأرض إذ يحتفي سكانه بانتقالهم من قرن الى آخر بينما غابات الكون تنتحب تصحراً وهواؤها يتوق لنقاء الأيام الغابرة. كانت روحي المضطربة تفتش عن ترانيم صلصالها كعطش ما بعد النبع. عيون كثيرة التقتها عيناي تفتش عن بشير أو نذير. النساء يطرزن وجوههن بسحابات الميثولوجيا وخلفهن الشمس تهندس مدارها أسطورة مؤجلة. خلفهن أيضاً هناك على هضبة البرلمان كانت العيون تموج مع أسئلة اللهب والضوء، مأخوذة بمهرجان الألعاب النارية. ناديت بصوت مستعار من أزلية العناصر: من يجرؤ على انتزاع عام من أعمارنا، فكيف بقرن أو ألفية؟ ها نحن عراة إلا من عصف أحداث تبرق أسنانها بسلطة الآلة وهديرها المحتضر...». الثلثاء 12/10/2010: الاحتراف إخوة اللغة نحن، ندخل معاً في العلبة، وهناك من يرمي العلبة في فضاء بلا قرار. إخوة اللغة المتشابهون في العلبة أو في خارجها. المشهد واحد موحّد، بلا معالم، مثل غبار، مثل ضباب. نشكو من الاحتراف، من سيل الكلمات المتشابهة، تلك المرصوفة سلفاً، الكلمات ذات المحتوى الموزون بدقة مثل كيس النايلون، الكلمات التي لا تعني نفسها المتغيرة. انه الاحتراف، الإخوة المتشابهون، التكرار منذ أول لغتنا: أكتب: العربية اسم وفعل وحرف. الاربعاء 13/10/2010: الوقت والكتابة العمر يضيق والكتابة تتسع، لذلك هذا الإنتاج الغزير للكتاب المسنين، يسابقون أعمارهم ولا مجال للحسرة على أوقات ضيعها الشباب. عند أدونيس، المسألة أكثر تعقيداً، فهو يكتب الشعر ويرسل أفكاراً في غير مجال، فعلى أي الجانبين يميل وأيهما يفضل؟ صرح لصحيفة «الوطن» السورية أنه سيتوقف عن كتابة الشعر مفسحاً الوقت لكتابة سيرة ذاتية لا بد أن تلامس أمكنة وتفتحات إبداع ومصطرع افكار وتحولات اجتماع وثقافة وسياسة. من آخر النهضويين الأحياء في العالم العربي، لكنه حاضر في إهاب الشباب. للمرة الأولى أفكر أن أدونيس عجوز، ما من أحد قالها وحين أقول لا أدقق كثيراً. سيتوقف أدونيس عن نشر الشعر لا عن كتابته. تلك وعود لا يستطيع الوفاء بها. بل إن السيرة الذاتية ستحمل شعراً لم يقل الشاعر مثله من قبل. أتخيل السيرة هنا تجسيداً شخصياً لسيرة للأمة كتبها أدونيس في المجلدات الثلاثة «الكتاب/ أمس المكان الآن». وإذا كانت الأمة احتاجت حفراً في تراثها المكتوب والمكتوم، فالسيرة الذاتية أكثر صعوبة. من يعرف نفسه ذات العلائق المعقدة بأزمنة وأمكنة واستشرافات؟ لأدونيس أن يختار نوع الكتابة في وقته الضيق (هل نختار لوقتنا الضيق أم نضيعه؟)، فأجمل ما في هذا النهضوي أنه لا ييأس فيما عوامل اليأس مطروحة على الطرقات. أييأس وهو يكتب؟ اليأس صمت. الخميس 14/10/2010: رسائل الى الفرعون على رغم أزمات لبنان التي تبدو أحياناً مصيرية، لا تزال الإقامة فيه محل رغبة كثيرين، أما جنسيته فحلم مواطني محيطه الجغرافي. هذا لأن الضربات التي تلقاها لبنان ويتلقاها منذ العام 1973 (التمهيدات الأولى للحروب الأهلية وللاجتياحات) كان يكفي القليل منها لزلزلة أوطان أكبر وتفتيتها أو إلحاقها. وهذا لأن لبنان أثبت قدرته على استيعاب معارف محيطه وآدابه وفنونه، وعلى حماية أحرار لفظهم الاستبداد ومبدعين تجاوزوا حدود التقليد. وطن يؤلف أساطيره باستمرار ليسعد بها ويهديها الى الراغبين. وهذا لأن لبنان امبراطورية من دون جيوش ولا أساطيل، ومثل فرنسا وبريطانيا مع التخفف من تبعاتهما الاستعمارية، أنشأ إمبراطورية الإقامة والانتشار فانتسب إليه في المغتربات حتى الذين وصلوا من بلاد أخرى. وهذا لأن لبنان نشأ على التعددية والاعتراف، فلم يستطع بعضه الهيمنة على بعضه الآخر، مهما بلغ الدعم المادي والمعنوي، بل إن العيش اللبناني لا يستقيم من دون التنوع الاجتماعي والثقافي، تنوع يتجلى في حرية التعليم والسفر وتبادل الأفكار والعقائد. وهؤلاء اللبنانيون الذين يزعجون القريب والبعيد بصراعاتهم، كم يبدون متشابهين أمام نظرة هادئة منصفة، فتاريخ التعددية عريق في لبنان، لكن آليات الاعتراف بين الجماعات مرتبكة، وإن لم تغب تماماً. وكم تبدو طريفة ولاذعة نقوش تل العمارنة في صعيد مصر المتضمنة رسائل قادة الدول/ المدن في لبنان وجواره الى الفرعون (أثناء الاحتلال المصري لشرق البحر المتوسط، حوالى العام 2000 قبل الميلاد). في الرسائل استعطاء هؤلاء القادة وامتداحهم قوات الاحتلال ووشاياتهم على بعضهم البعض، واستعداء كل منهم الفرعون على القادة الآخرين. ولكن، انسحب الفراعنة الى بلادهم بعد حين، وبقي اللبنانيون بتناقضاتهم، ينتظرون جبابرة جدداً يوجهون إليهم رسائل الاستعطاء والطاعة والاستعداء على شريك الوطن. أبرز الرسائل تلك الصادرة من ملك جبيل ريب آددي وملك صور أبي ملكي، وهي كتبت باللغة الأكادية. ومن رسالة ريب آددي: «بفمي وكلامي قلت الحقيقة للملك. ليت الملك سيدي يصغي باهتمام الى كلمات خادمه الوفي. ليت قائد النبّالين يبقى في مدينة صمّر (واقعة في سهل عكار شمال مدينة جبيل)، ولتأخذ الخائب إليك فحقق معه واستعلم كلامه، فإن بدا لك كلامه طيباً عيّن مراقباً عليه يكون شخصاً مقدراً لدى الحكام التابعين للملك. وعسى سيدي يهتم بكلماتي ويعلم الآن أن «أزيرو بن عبدي أشرتا» موجود في مدينة دمشق مع إخوته، فلترسل كتيبة نبّالين وتأخذه فتصير بلاد الملك هادئة. أما إذا ظلّ الوضع كما هو فلن تظل مدينة صمّر قائمة. إضافة الى ذلك، عسى الملك سيدي يصغي الى كلمات خادمه الوفيّ: لا يوجد مال (أو فضة) لدفع ثمن الخيل. كل ما معنا صرفناه لكي نعيش، لذلك أعطني ثلاثين زوجاً من الخيل مع العربات. يوجد عندي خيالة، ولكن لا توجد عربات ولا خيل كي أقوم بحملة على أعداء الملك، لذلك أنا خائف ولذلك لم أزحف على مدينة صمّر». الجمعة 15/10/2010: الخزانة أشياء في الخزانة الزجاجية نفترضها تحفاً: بيوت إنكليزية صغيرة من الجص، سكنّا في مثلها ثم أعادتنا الأقدار الى بلادنا، لم نتحمل الكلام الآخر. ميداليات ثقافية أعطيت من دون تدقيق، فلا سجلّ ذهبياً يحفظ أسماء مستحقيها. إنها شهادات خرساء مرمية في بيوت بعيدة أو قريبة. الصور في الخزانة الزجاجية، بالأبيض والأسود تحت شجرة التين. بالألوان أبناء ورفاق أجانب لن يلتقوهم حتى في الانترنت. أوضاع للوجه بمقاييس إدارة الجوازات. الأذنان ضروريتان. رجل وامرأة وآذان أربع في الخزانة. الوجوه في أعمارها المختلفة، جاهزة لجوازات سفر، نحو المستقبل ونحو الماضي ايضاً. ليس في الخزانة ما يؤكل أو يشرب. ليست لأيام الحصار. الخزانة معالم فقيرة لعمر يضيع في الضجر.