بدأت الدعوة إلى التنوير في العالم العربي حوالى القرن التاسع عشر، وهذا لا يعني أن هذا العالم لم يكن لديه تاريخ ولا حضارة قبل ذلك، كما روجت الخطابات الاستعمارية التي عملت على تحويل التنوير إلى أيديولوجيا للهيمنة. لكن وضع هذا العالم كان قد تدهور على مدى قرون، بسبب عوامل داخلية وخارجية، ولم تنجح وصفات الإصلاح التقليدية والمألوفة في مواجهة هذا التدهور، ولم يكن سبب هذا التدهور الاستعمار، بل جاء الاستعمار نتيجة من نتائجه. فالمجتمعات إذا ضعفت وبقيت على حال ضعفها فقدت القدرة والمناعة في الدفاع عن نفسها. والقدرة ليست القوة العسكرية بل هي قبل ذلك التجانس الداخلي للمجتمع واقتسام المصالح والنفوذ والثروات بين أعضائه في كنف السلام والعدل وتطويق العنف في المؤسسات الشرعية. ولا مناعة لمجتمعات تضع الحواجز بين أفرادها لاختلاف الجنس أو اللون أو الأصل أو الدين أو المذهب، ولا قوة لمجتمعات يحمل فيها الناس السلاح لحماية أنفسهم بدل أن يحميهم القانون والشرعية. هذا كان حال المجتمعات العربية في ما دعي لاحقاً بعصر الانحطاط، وإن لم يكن يمثل في نظر من عاشوه انحطاطاً، لأنهم كانوا يرونه وضعاً طبيعياً من فرط ما ألفوه، وربما تمرد على الوضع بين الحين والآخر أناس يدعون إلى الإصلاح، لكنهم لا يتصورون الإصلاح بغير العودة إلى الماضي، إلا أننا لم نقطع إلى اليوم مع مآسي ذلك العصر ونظمه وأفكاره وتصوراته. إن الإصلاح بالمعنى الحديث مختلف تماماً، فهو اندماج في الراهن الكوني وتطلع نحو المستقبل، مع إعادة تأويل الماضي ليكون حافزاً في الاندماج والتطلع بدل أن يكون عائقاً يحول دونهما. والماضي لا يؤدي إلى الحاضر بل الحاضر هو الذي يمنح الماضي معناه وجدواه وقيمة وجوده. والماضي يتجسد في الحاضر في شكلين: أولهما الذاكرات الفرعية التي تحملها عن ماضيها مجموعات بشرية متعددة، وهي ذاكرات ذاتية إذا أرادت واحدة منها أن تفرض نفسها على الأخريات تسببت في عنف رمزي غالباً ما يتحول إلى عنف مادي. من هنا كان التاريخ بالمعنى الحديث، وهو غير الإخبار الذي عرفه البشر منذ أقدم العصور، جزءاً أساسياً من الحداثة والأنوار، وهو الشكل الثاني والأرقى في تجسيد الماضي وتمثله لدى المعاصرين. فهو لا ينحاز إلى إحدى الذاكرات المتنافسة لكنه يسعى إلى الاستعادة الموضوعية والمحايدة للماضي من منطلق تعدد الذاكرات والروايات والنقول والشهود. إنه تاريخ لا يكتبه ممثلو الطوائف وشيوخ العشائر ولا يخضع للفتاوى والإعلانات السياسية، وإنما يكتبه المتدربون على العلوم الإنسانية والاجتماعية المتشبعون بمصادراتها الفلسفية الإنسوية. وقد يكون من العسير أن يمحي التاريخ الموضوعي الذاكرات الذاتية وأن يتحول إلى ذاكرة جماعية تنوب عنها، لكن الخطر يتمثل في أن تُنصّب الذاكرات الجزئية نفسها تاريخاً عاماً وشاملاً وأوحد، فذلك الشاهد على ضعف التجانس الداخلي في المجتمع، لأن إقصاء مجموعات أو أحداث أو تيارات عند استعادة الماضي يعني إقصاء حضورها أو حضور من يستند إلى شرعيتها في الحاضر، والقضية لا تحل إلا إذا تطورت الكتابات التاريخية في كل أشكالها، التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي وتاريخ الدول والأقليات والأديان... الخ، كي لا تبقى الذاكرات الفرعية والمجزأة والمفككة مسيطرة، ولا يستمر الناس في تبادل العنف في الحاضر لأن كل مجموعة منهم لا ترى من الماضي إلا الجزء الذي تعودت عليه ولا ترى ذلك الجزء إلا بالعين التي ألفتها وورثتها. ما يعني أن الماضي يظل ثقلاً يأسر الحاضر ويطوقه بمشاكله ومآسيه، مع أن ما حصل في الماضي لا يمكن تغييره وما نجم من خلافات لم يحلها معاصروها لا يمكن حلها لمن عاش بعدها بقرون. الدعوة إلى التنوير دعوة إلى تنسيب الذاكرات الفرعية والذاتية من دون إلغائها، ومواجهة لسطوتها السردية بنقدية المناهج العلمية، من دون تحنيط العلم ليصبح بدوره أيديولوجيا للهيمنة تستعملها أطراف اجتماعية على حساب أخرى. ولا بدّ من التمييز بين تنوير نقدي وتنوير تحوّل إلى أيديولوجيا للهيمنة، وهذه الظاهرة الثانية قد طرحت طرحاً فلسفياً معمقاً لدى فلاسفة مدرسة فرانكفورت، من هربرت ماركوز الذي ناضل ضد «الإنسان ذي البعد الواحد» وصولاً إلى المعاصر يورغان هابرماس المدافع عن التواصل في الفضاء العمومي في وجه الأنظمة الشمولية وآخرها الليبرالية المفرطة. ولا بدّ أيضاً من التمييز بين إصلاح حديث وإصلاح أرشيفي يظن أن مشاكل اليوم تجد كل حلولها في تجارب الماضي، وقد بدأ الإصلاح الحديث في القرن التاسع عشر في تواصل مع فكر الأنوار، وبدأ الاهتمام بالتنوير في إطار الرغبة في الإصلاح، وكان القرن التاسع عشر قرن عولمة الأنوار وتحولها إلى نموذج حضاري كوني، فكانت كل الإصلاحية العربية الحديثة محاولات للتوفيق بين التراث ومبادئ الحداثة والأنوار، على درجات متباينة من العمق والجرأة والتوفيق. ندعو إلى التنوير رغبة في تحقيق الإصلاح بالمعنى الحديث، ويأساً من أن نعالج معضلات اليوم بوصفات الأمس، وأملاً في ألا يتجمد العقل بترديد المقولات الحداثية مسلوبة من كفاءتها النقدية، ولا يتجمد الفعل بترديد الوسائل الإصلاحية المقتبسة من الماضي من دون علاقة بفهم العالم الحديث. ندعو إلى التنوير كي تحقق المجتمعات تجانسها بالحرية والعقل بدل أن تقوم الوحدة فيها بالعنف والهيمنة فتنهار في أول فرصة. * كاتب وجامعي تونسي.