في قرية منشأة عطيفي في الفيوم (100 كلم جنوبالقاهرة)، نشأ محمود شفيق الذي قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إنه الانتحاري الذي فجر نفسه بحزام ناسف في الكنيسة البُطرسية في العباسية، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى. وتعد قرى محافظة الفيوم من أنشط معاقل الإسلاميين. ولا تبعد منشأة عطيفي مسافة كبيرة من قرية الكحك التي احتضنت بدايات تطرف أمير الجماعة الإسلامية عمر عبدالرحمن، المسجون في الولاياتالمتحدة الأميركية، وقُتل عشرات من سكانها وسُجن مئات آخرون خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي إبان الصراع المسلح بين السلطات وتنظيمي «الجماعة الإسلامية» و «الجهاد». في القريتين يبدو هذا الارتباط واضحاً، فنادراً ما تتخلى امرأة أو حتى صبيّة عن النقاب، أو يتخلى رجل عن الجلباب القصير، وقبل سنتين كانت صور ضباط المباحث في أقسام الشرطة معلقة على أعمدة الإنارة وجدران البنايات وقد كُتب تحتها «مطلوب». بعد أن أتم شفيق دراسته الثانوية التحق بكلية العلوم في جامعة الفيوم، لكنه فُصل من دون أن تطأ قدماه الجامعة، إذ تغيب عن الدراسة وخطا نحو التطرف. ويشير حساب الانتحاري المفترض على موقع «تويتر» باسم «أبو دجانة الكناني» إلى اعتناقه أفكاراً متشددة بعد عزل الرئيس السابق محمد مرسي في تموز (يوليو) 2013، فيما كانت توجهاته قبل ذلك تسير في اتجاه تأييد جماعة «الإخوان» مع اعتراضات على نهج تعاملها مع الجيش. نشأ شفيق في أسرة فقيرة كحال غالبية سكان قريته والقرى المجاورة لها، إذ تعد محافظة الفيوم من أفقر محافظات مصر، على مستوى دخل السكان والخدمات الحكومية فيها. عمل سائق «توك توك» لبضع سنوات للمساعدة في نفقات أسرته، وشقيقه الأكبر موقوف منذ شهور بتهمة «الانتماء إلى جماعة الإخوان»، وشقيقه الأصغر طالب وخلفه في قيادة ال «توك توك» للإنفاق على الأسرة التي تضم 4 بنات. وبعد كشف صلته بالهجوم على الكنيسة، ظهر تعاطف نحو أسرته من إسلاميين في مركز سنورس هاتفتهم «الحياة»، وتحدثوا عن فقرها «وقلة حيلتها». وقال أحدهم إن «محمود شاهد زملاء له يُقتلون في رابعة»، في إشارة إلى اعتصام آلاف من أنصار مرسي في ميدان رابعة العدوية في شرق القاهرة، وهو الاعتصام الذي فضته السلطات بالقوة في 14 آب (أغسطس) 2013، ما أدى إلى مقتل مئات. وأوقف شفيق في آذار (مارس) 2014 خلال تظاهرة لأنصار «الإخوان» ووُجهت إليه تهمتا «حيازة سلاح آلي والتظاهر من دون تصريح»، ثم أطلق بعد نحو شهرين بقرار من النيابة العامة، وأُسقطت عنه تهمة حيازة سلاح ناري، وحوكم أمام محكمة الجنح بتهمة التظاهر من دون تصريح وعُوقب غيابياً بالسجن لمدة عامين، وصدر الحكم في بدايات العام 2015، وبعدها فر شفيق من قريته ولم يظهر مُجدداً، حتى أعلن السيسي أنه انتحاري الكنيسة البطرسية. وكشفت وزارة الداخلية أن طبيباً ينتمي إلى جماعة «الإخوان» وعلى صلة بفرع «داعش» في سيناء جنّده لتنفيذ العلمية، وأن الانتحاري تلقى تدريباً في القاهرة. شفيق ليس الوحيد الذي خاض الرحلة التي بدأت من رابعة ثم السجن فالانتماء إلى «داعش»، فمثله وليد حسين الذي تعرف إلى «تكفيريين» أثناء اعتصام «رابعة»، وحوكم في قضية تأسيس خلية إرهابية تابعة لتنظيم «القاعدة»، ولما أُطلق بعدما نال البراءة قُتل في مداهمة في القاهرة، بعدما دلت معلومات على أنه أسس خليتين تتبعان «داعش» في القاهرة وحلوان تورطتا في قتل ضباط وجنود. ومثلهما أحمد عبدالرحمن الذي قُتل أيضاً في مطاردة مع الأهالي وأمين شرطة في أحد شوارع مدينة الزقازيق بعد أن قتل شرطياً لحق بأكثر من 10 آخرين قتلهم عبدالرحمن الذي دلت التحريات على أنه «تواصل مع تكفيريين مؤيدين لداعش عبر الإنترنت، وكان شارك في اعتصام رابعة، وأُلقيّ القبض عليه خلال تظاهرة للإخوان في الشرقية قبل إطلاق سراحه». وقال ل «الحياة» الخبير في شؤون الحركات الإسلامية ناجح إبراهيم إن «النماذج التي اعتصمت في رابعة ثم سُجنت لفترة والتحقت بجماعات متشددة بعد إطلاق سراحها أكثر من أن يتم إحصاؤها». وأضاف أن «اعتصام رابعة ستعاني مصر لسنوات بسبب خطابه المتشدد وفضه العنيف. الخطاب المتطرف حضر بقوة وظل يشحن في الشباب لأكثر من شهرين، وبعدها أتى الفض العنيف وسالت الدماء أمام عقول باتت متشبعة بالتكفير». وأوضح أن «غالبية المعتصمين كانت من قرى الفيوم وبني سويف وجنوبالجيزة، ومن هذه القرى أتت النسبة الأكبر للقتلى والجرحى والموقوفين». وأشار إلى أن بعضهم «سُجن وعُومل بوحشية والأخطر أنه تم الخلط في السجون، فزامل الشباب الصغير الذي لم يكن يحمل أي فكر عُتاة التكفير وأصحاب الفكر المتشدد، فخرجوا من السجون تكفيريين»، مستغرباً إطلاق الشباب من دون إخضاعهم لبرامج تأهيل نفسي وفكري «تقيهم من الفكر التكفيري الذي تشبعوا به داخل السجون». لكن محامي الإسلاميين محمد ياسين قال ل «الحياة» إن عدد من أُطلق من السجون ونفذ عمليات إرهابية «محدود للغاية». وأوضح أن «هؤلاء غالباً يكونون خطرين للغاية، لأن أفكارهم مشوشة إلى حد بعيد». وأضاف أنهم «يكونون الأكثر قابلية لتنفيذ العمليات الانتحارية. يصعب إقناع أي فرد، حتى صاحب الفكر المتشدد، بتنفيذ تفجير انتحاري. هؤلاء هم أول المرشحين». ولفت إلى أن كثيرين من الشباب «يقرون بسهولة أمام جهات التحقيق بتفاصيل هجمات تورطوا فيها. من يحرضهم على تلك الهجمات يؤكد لهم أنه لا فرصة لكشفهم، وتُرسل إليهم الأموال في تلك الفترة غالباً من إندونيسيا وماليزيا، وحين يُقبض عليهم يُفاجأون بوصول الأمن إليهم، ويُقرون غالباً من دون ضغوط وأحياناً تحت الضغط بتفاصيل عملهم». وقال ل «الحياة» الوكيل السابق لجهاز الأمن الوطني العميد خالد عكاشة إن «أجهزة الأمن تضطر إلى إطلاق سراح متهمين تنفيذاً لقرارات قضائية، رغم تأكدها من أنهم يعتنقون أفكاراً تكفيرية». وأوضح أن «أجهزة الأمن تسعى في تلك الحالات إلى مراقبة هؤلاء الأشخاص وتتبعهم، لكن في كثير من الأحيان يفلتون من المراقبة، ويهجرون منازلهم، وفي تلك الحال تتأكد أن هذا الشخص الفار قد التحق بخلية إرهابية».