قبل ستة شهور، تلقى «أبو عمر» اتصالاً هاتفياً من رجل قدم نفسه باسم «أبو يعقوب»، أبلغه ب «استشهاد» ابنه العشريني في مواجهات مع عناصر «حزب الله» اللبناني في سورية. لم يكن الاتصال الذي تلقاه الرجل الستيني مفاجئاً، فهو كان يتوقعه منذ اتصل ابنه به العام الماضي ليخبره بأنه سافر «للجهاد ضد الطاغية بشار الأسد». غير أن التحولات التي شهدتها رحلة الابن من ميدان التحرير في قلب القاهرة إلى ميادين القتال في سورية، تشبه مسارات كثيرين من جيل «الجهاديين الجدد» في مصر. وروى «أبو عمر» ل «الحياة» في منزله في حي الطالبية (جنوبالقاهرة)، قصة تحولات الابن خلال الأعوام الثلاثة الماضية. وقال الرجل الذي عَرّف عن نفسه بكنية غير حقيقية خوفاً من ملاحقات الأمن، إن ابنه خريج كلية الهندسة في جامعة القاهرة لم يكن ملتزماً دينياً حتى اندلاع الثورة على نظام الرئيس السابق حسني مبارك في كانون الثاني (يناير) 2011. وأوضح أن ابنه «شارك في التظاهرات ضد مبارك، ولم يكن يرضي بالأحوال التي عاشتها مصر في عهد المجلس العسكري السابق وكان يرى أن السلطة الحاكمة في تلك الفترة تسعى إلى الالتفاف على الأهداف التي خرج من أجلها الشباب... لكن مسار حياته بدأ يتغير بعد مشاركته في اعتصام دعا إليه (الداعية السلفي المثير للجدل حازم صلاح) أبو إسماعيل قبل الانتخابات الرئاسية بشهور». وأضاف أن ابنه «بدأ بعد الاعتصام في المداومة على حضور دروس دينية كان يلقيها أبو إسماعيل في مسجده أسد ابن الفرات» في حي الدقي (جنوبالقاهرة)، كما شارك في الحملة الانتخابية لأبو إسماعيل (المسجون حالياً على ذمة قضايا عدة). وحين رفضت اللجنة المشرفة على الانتخابات الرئاسية أوراق أبو إسماعيل بسبب حمل والدته الجنسية الأميركية، زاد غضب الابن «وكان يردد انتقادات لاذعة للسلطة العسكرية التي قال إنها أطاحت أبو اسماعيل لأنها تخشى وجود رئيس قوي قادر على تطبيق الشريعة الإسلامية». وعقب انتخاب الرئيس السابق محمد مرسي الذي «لم يكن يرضى عنه ابني»، غاب الشاب العشريني عن المنزل بضعة شهور «بحجة العثور على عمل في سيناء... كنا نتلقى منه مكالمات هاتفية كل أسبوع تقريباً، لكننا اكتشفنا بعدها أنه كان منضماً إلى معسكرات للجهاديين في سيناء». بعد فترة، عاد الابن «ومكث في المنزل لأيام، وكان أطلق لحيته. عاش معنا في عزلة، وبعدها غاب من دون أن نعرف وجهته. وبعد شهر، تلقينا اتصالاً منه أبلغنا فيه بأنه ذهب إلى سورية للجهاد ضد نظام الطاغية بشار الأسد. ظل يتصل على فترات متباعدة ويتحدث عن الانتصارات في مواجهة الجيش السوري، حتى جاء اتصال أبو يعقوب». وتشترك هذه الرواية في تفاصيل كثيرة مع قصص غالبية الشباب الذين تحولوا إلى التيار «الجهادي» خلال السنوات الثلاث الماضية. ووفقاً للقاءات أجرتها «الحياة» مع عائلات شبان تحولوا إلى العنف وتحقيقات تجريها أجهزة الأمن مع موقوفين بتهم «الإرهاب»، يجمع الجهاديين الجدد أنهم عاشوا حياتهم في عهد مبارك، ثم شارك بعضهم في الثورة عليه، ومعظمهم من المتعلمين في الجامعات أو الحاصلين على تعليم فوق المتوسط. ولم تكن الحاجة إلى المال الدافع وراء تحولهم، فمعظمهم جاء من خلفيات ميسورة. لكن تحولاتهم الفكرية جاءت على موجتين: الأولى موجات التجنيد التي شهدتها التظاهرات بعد تنحي مبارك، خصوصاً في العامين 2011 و2012، والثانية موجات التجنيد خلال اعتصامي أنصار الرئيس السابق محمد مرسي في ميداني «رابعة العدوية» و «النهضة»، وبعد فض الاعتصامين العام الماضي. وتشير تقديرات أمنية إلى أن «جهاديي» الموجة الأولى «أقل عدداً لكنهم أكثر شراسة وتمرساً على استخدام السلاح». ويوضح مسؤول أمني أن هؤلاء «كانوا يشاركون في التظاهرات ضد المجلس العسكري السابق لتحقيق أهداف الثورة، قبل أن يحصل ترابط بينهم وبين مجموعة من المتشددين والأصوليين بفعل الحياة داخل الميدان والاعتصامات، واستمرت تلك الروابط لاحقاً ليتحول فكر هؤلاء الشباب». وأضاف أن بعضهم «غيّر حياته وذهب إلى سيناء للمكوث في معسكرات المسلحين وتشكيل نواة الجماعات المسلحة هناك، وبالتحديد أنصار بيت المقدس، فيما خاطر بعضهم بحياته بالذهاب إلى سورية تحت شعارات الجهاد ضد الأسد، وكل هذا كان يحدث بعيداً من أعين أجهزة الأمن التي شُلت حركتها في أعقاب انهيار الشرطة واقتحام مقر جهاز أمن الدولة» السابق. وعلى غرار تحولات نجل «أبو عمر» المنتمي إلى الموجة الأولى، شكّل الانضمام إلى حركة «حازمون» التي كان يقودها أبو إسماعيل، نقطة تحول في حياة كثيرين من «الجهاديين» الجدد بعد الثورة، بحسب القيادي السابق في «الجماعة الإسلامية» ناجح إبراهيم الذي رصد انضمام عشرات من أعضاء «حازمون» إلى جماعة «أنصار بيت المقدس» المسؤولة عن غالبية عمليات العنف المسلح في مصر العام الماضي. وأكد ل «الحياة» أن «حركة حازمون لعبت دوراً رئيساً في تسفير مئات الشباب للجهاد في سورية عبر البوابة التركية تحت سمع وبصر نظام مرسي الذي كان يؤمّن تلك التحركات». ويوضح إبراهيم أن انخراط بعض أعضاء «حازمون» في «أنصار بيت المقدس» التي تستلهم أفكار تنظيم «داعش»، إضافة إلى «انضمام أفراد الجماعات التكفيرية القديمة مثل الشوقيين ومجموعات المطرية وإمبابة وبولاق وبني سويف والفيوم والشرقية الذين أطلقوا من السجون عقب الثورة، مثّل قبلة الحياة للجماعة في سيناء، إذ وفّر لها هذا الكم الهائل من الأتباع، مع توافر الأسلحة التي تدفقت عبر ليبيا وقطاع غزة». ولفت إبراهيم إلى أن «حال العداء بين أعضاء حازمون ومؤسسات الدولة، لا سيما الجيش، جاءت في أعقاب فض الجيش اعتصاماً نظمه أبو إسماعيل في محيط وزارة الدفاع» في العام 2012، تخلله رفع شعارات وأعلام تنظيم «القاعدة»، وأدت عملية الفض إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى بين صفوف المعتصمين. وأعرب عن اعتقاده بأن «مذبحة رفح الأولى» التي قتل فيها 17 جندياً في العام نفسه «كانت رداً على عملية الفض». ولفت إلى أن «معظم من تدرّبوا في معسكرات أنصار بيت المقدس كانوا ذاهبين إلى سورية، وقد يذهبون إلى سورية أولاً ويعودون إلى تلك المعسكرات لاحقاً... أنصار بيت المقدس أكثر الجماعات التكفيرية المصرية شبهاً بتنظيم داعش فكراً وسلوكاً وممارسة. كان التنظيم في بداياته يتبع القاعدة ويدين بالولاء لأيمن الظواهري، لكنه ترك هذه التبعية، ليركب السفينة الأكبر وهي داعش التي أعلنت الخلافة رسمياً». وعقب عزل مرسي في تموز (يوليو) 2013، جاء التحول الأكثر عدداً لشبان شحنهم ارتفاع سقف خطاب اعتصامي «الإخوان» ثم شاركوا في المواجهات مع الجيش والشرطة وشيعوا مئات من رفاقهم سقطوا في فض الاعتصامين. وأشار المسؤول الأمني إلى أن «هذا النوع لا يجمعه في الغالب تنظيم كبير، وإنما يتحركون كخلايا صغيرة العدد تشكلت بفعل علاقات صداقة بين أعضائها ولا يحتاجون تمويلاً كبيراً، إذ أنهم يعتمدون في عملياتهم على العبوات البدائية الصنع التي يتعلمون تصنيعها عبر تفاصيل منشورة على صفحات الإنترنت، ومن مواد تباع في الأسواق المحلية».