على رغم من الحديث الذي بدأ مبكراً عن قلق دولي نحو استغلال أجزاء من الصحراء الكبرى، من جانب تنظيمات مسلحة ينتمي بعضها إلى تنظيم «القاعدة»، إلا أن النقاش الأكبر حول المنطقة شهد أعلى ذروته بداية هذا العام، عندما نشط ما سمي بتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي في خطف أجانب غربيين كلّما استطاع ذلك، في موريتانيا والنيجر ومالي والجزائر. وطبيعي أن تستدعي القوى الكبرى إمكاناتها، وتجيش حلفاءها، ساعة يتعرض أحد مواطنيها للخطر أو يمسسه سوء هنا أو هناك، حتى غدا ذلك سنة واضحة في ما يعرف ب«العالم الجديد»، الذي توزن فيه قيمة «الإنسان»، بالدولة التي ينتمي إليها، وضيعة كانت أو شريفة، على غرار القبائل العربية في زمن الجاهلية الغابر، فإن كان «الدم المسفوح» لذي أصل فإن الصاع سيرد بأطنان، وإن جرت الأقدار بأن المذبوح «آدميّ» غير ذي أرومة، أو بالتعبير الحالي «من العالم الثالث»، فإن الثأر لدمه أو الحديث عن ذلك، «طيش» وقلة حكمة، وجنون. علاقة هذا «العرف» المرّ بما استجد أخيراً في صحراء «العرب والطوارق» شمال النهر واضحة، فكل التحركات الجديدة، كانت إما ثأراً لدماء زكية غربية سفكت، أو نهضة لإنقاذ سفح أخرى، ثم من بعد بحثاً عمّا يمكن أن يفضي إلى تأمين تنقل الدماء الزكية، من دون أن تلقى صعوبة أو تهديداً في صحراء مترامية الأطراف، لم تعرف غير أمنها الذاتي في كل تاريخها. وهذا ما يدفع القوى الغربية أخيراً إلى التحرك، ليس صدقاً في مكافحة القاعدة، ولا جداً في تأمين الصحراء من أعدائها: الجوع، والجهل، والمرض. والذين ما حلّ أي مستعمر أو طاغية أو طامع بأرض، إلا وهو راكب صهوة أحدها، بما في ذلك القاعدة. لكن التساؤل المنطقي الذي ربّما يطرحه كل قارئ، أين المشكلة؟ فالقاعدة عدو مشترك للمنطقة بحكوماتها، وللغرب، وللسكان المحليين أيضاً. فتحت أي ذريعة حاربتها الدول الكبرى، يغنم الجميع. هذا السؤال الذي جاء هذا التقرير للإجابة عنه. القصة كما يرويها أهل المنطقة الذين تجولت «الحياة» بينهم في أواخر تموز (يوليو) الماضي، ولمّا تزل على اتصال بمصادرها فيها، هي أن وجود القاعدة على الأرض حقيقة لا ريب فيها، لكنهم يلاحظون التعاطي مع ملفها منذ البداية بخلط شديد، فاسم الصحراء وإن كان يطلق على أرض تشترك فيها دول «المغرب، (بوليساريو)، وموريتانيا، ومالي، والنيجر، والجزائر، وليبيا» (بحسب ترتيبها الجغرافي من الغرب إلى الشرق)، إلا أن المشكلة الكبرى حالياً تنحصر في العمق المالي أكثر، وهو الذي يتقاطع صحراوياً أو شعبياً مع كل الدول المذكورة. وذلك أن الجامع بين نسيج هذه المنطقة كلها، هوية شعبها «العربي والطارقي»، ونمط حياة بدائية، عمودها الماشية، مع نشاط ضعيف للأسواق المحلية، التي تعيش على البضائع المهربة من الجزائر في أغلب الأحيان. يقابل ذلك الفراغ التنموي، فراغ أمني آخر، فليس في تلك الأقاليم، ما يستدعي أي حكومة لأن تتواجد، فأغلب الأهالي يحتكمون إلى الأعراف الاجتماعية التي كانت سائدة حتى قبل الاستعمار، وإن احتاجوا إلى تدخل الحكومة فهم من سيذهب إليها في بعض مراكزها المتواضعة، في مدن مثل (تنمبكتو، وكيدال، وإيغدز) والمراكز التابعة لها، ويروون على هذا الصعيد أعاجيب، فيما خص الحكومتين المالية والنيجيرية، فمثلاً عندما تنشب قضية مرة في العام، تستدعي تدخلاً قانونياً لفصل النزاع، يذهب الوجهاء إلى الحكومة المحلية، ويطلبونها أن تقضي بينهم، وتفرض أمرها بالقوة، فيطلب المختص في مقابل ذلك التعهد ابتداءً بأجر السيارة (الرسمية) التي ستقف على (القرية) أو (البئر) لمعاينة أطراف النزاع. وأجرة السيارة، التي تذهب إلى جيب المندوب الحكومي، ليست إلا العوض المعلن، أما الذي يجري في الخفاء فهو في واقع الأمر كما يقولون «من يدفع أكثر، يربح القضاء». والفساد الذي يرمز إليه السكان بقصصهم تلك، لا يستثني أي إدارة في تلك الناحية، فإضافة إلى الفقر الشديد الذي غيب الذمم، يسود أمام العيان لكل متجول في تلك المناطق، تذمر أهلها العام، من توزيع فرص التنمية بشكل غير متوازن. فكل وزير، أو صاحب ولاية، ما يديره يعتبر ملكاً شخصياً له، وعلى من يريد نيل نصيبه أن يدفع «الرشوة». في وضع كهذا يقول إبراهيم سنغاي «بوسع القاعدة، أن تسير الحكومة نفسها من الباطن. ناهيك بالمستضعفين البدو وفي القرى، الذين ليست لديهم حيلة، ويرتعبون لمشاهدة أي غريب، وثمن كل ماشية أحدهم أو مزرعته، لا يتجاوز ألف دولار. في حين تملك القاعدة ملايين الدولارات تحتار كيف تصرّفها، من وفرة السيولة النقدية بفضل ملايين الفدى»! وإذا كانت ثمة حقيقة غير قابلة للجدل هنالك كما يقول أحمد بن حمتا، فهي أن «الذي يملك المال أولاً ثم القوة ثانياً، هو من يحكم الصحراء والمسؤولين عن الصحراء في حكومة مالي والنيجر على وجه التحديد، فالإشاعة المعلنة بين الأهالي أن القاعدة تدفع لمن يقدم لها خدمة مهما صغرت، بغير حساب. أما من يحاول معارضتها أو مناكفتها، أو التحريض ضدها، فإن مصيره في المنطقة لا محالة هو القتل، كما فعلت في الشتاء الماضي بحق ضابط من عرب تنمبكتو عندما أردته قتيلاً فسجلت القضية ضد مجهول». وفي تلك الحادثة التي يشير إليها ابن حمتا تعددت الروايات عن الدوافع وراء قتل شخص بحجم الرجل، فكان هناك من يعتبره حليفاً، قرر التخلي عن أدواره فيخشون أن يكشف أسرارهم، وأخرى تقول بل هو عميل مزدوج اكتشفوا اتصالاته بأجهزة الحكومة المالية لمصلحتها، لكن العبرة ظلت بارزة «نفعل ما نشاء بمن نشاء». التدخل في شؤون الناس وإهانتهم هذا الخطر الحقيقي الذي يتحدث عنه السكان في وجود القاعدة في بلادهم، يختلف كلياً عن التقارير الغربية، التي تزعم أن أفكار سكان المنطقة الدينية ربما تقودهم إلى الانضمام للقاعدة، خصوصاً وأنها ترفع راية «الإسلام»، التي ربما انطلت على البسطاء الرحل. بينما الروايات المحلية والوقائع على الأرض، أثبتت أن السكان العرب والطوارق في تلك المنطقة، لديهم استقلال فكري خاص، فلا توجد منطقة بلا شيخ أو عالم دين، أو وجيه اجتماعي، تثق بأفكاره ونصائحه الدينية. لكن الشبان المحبطين الذين لا يجدون عملاً، ويشعرون بالنقمة على حكوماتهم بفعل التهميش المنهجي، والتمييز العنصري، والقتل الهمجي، على مر العقود الماضية، فيما يوثق عمر خدو «لا يعقل منطقياً، أن يتورعوا عن خدمة أي جهة تقدم لهم مالاً، خصوصاً وأن معظم الخدمات التي تطلبها القاعدة من السكان المحليين لوجستية، مثل استخراج المياه من الآبار، وتأمين بضائع تموينية، وشراء ذبائح، ونحوها»، أضف إلى ذلك أن هذا الشاب إن لم يستجب لمطالبهم، فإنه لا يأمن عاقبتهم. كما حدث مع أحد السكان الأبرياء الذين غيبوه في منطقة ( طُلب عدم ذكرها) بعد أن ناقشهم في مشروعية التدخين البدائي الذي يتعاطاه بعض بدو المنطقة. ومع آخر على الحدود الموريتانية، عندما أهانوه وطالبوه أمام أبنائه بالأذان للصلاة، ليتأكد القاعديون من إسلامه، بحسب أفكارهم الفتاكة. ويجزم عمر بأنه في ظل الوضع القائم، لا يقتصر «التعاون الجبري» مع المسلحين، على الأفراد والرعاة وحدهم، ولكنه يأتي في المقام الأول من حكومتي مالي والنيجر، من جانب عناصر طامعة أو خائفة في المدن الشمالية. ما هو أسوأ من القاعدة أما الهاجس الذي يؤرق السكان، كما يروون ل«الحياة»، فليس الآن القاعدة، فهي لا تريد في منطقتهم أكثر من ملاذ آمن، تبرم فيه صفقاتها مع القوى الغربية، وبعض الدول المستفيدة، وإنما الهاجس الأكبر الخشية من تكرار الحكومات سيناريو أفغانستان، بحيث تدعي مطاردة عناصر القاعدة، وتضر بمصالح الناس المتهالكة من الأساس. أو تقتل الأبرياء فتزعم أنها قتلت عناصر مسلحة، مع أن مواطن التنظيم المسلح مشهورة معروفة، وهي في مناطق لا تصلح للسكنى الطبيعي، خصوصاً للنساء والأطفال، والبهائم، فهم يتحصنون بوعورة الصحراء. ومع انتشار أدوات الاتصال والبث الفضائي عبر القرى، بواسطة الطاقة الشمسية، وبعض المحركات المشغلة للطاقة، أصبح سكان المنطقة على اطلاع واسع بما يجري في أفغانستان، التي تعتبر في نظرهم مثل السوء في التجربة الغربية لمطاردة القاعدة، فالأبرياء يموتون بالعشرات يومياً وأنصار طالبان وابن لادن يزدادون قوة، هذا إضافة إلى غول أخرى، للسكان معها تجربة قاسية، إذ يخشون كما حدث أن تتفق دول المنطقة على إسناد مكافحة القاعدة لكل دولة في حدودها الجغرافية، وعندها لا يثق سكان شمال مالي والنيجر تحديداً بقيام حكوماتهم بأداء مهمتها في مكافحة التنظيم باحتراف. فتجاربهم السابقة مع الجيش المالي مثلاً في سنوات التمرد ضده، أنه كلما جرى تفويضه بمحاربة المسلحين وملاحقتهم في الصحاري والجبال الشمالية، يصاب بنكسة كبرى، فيعود إلى خيام البدو، وبيوت الطين في القرى، فيدكها بالدبابات والقنابل والرشاشات، تسجيلاً لانتصار وهمي، راحت ضحيته أحياء بأكملها في كل مناطق الشمال المالي بلا استثناء! وهو ما ينذر بإشعال أزمة «الثوار» العرب والطوارق، أو «المتمردين» كما تسميهم مالي والنيجر مجدداً، بعد تهدئة هشة التزم بها الطرفان، جاءت بعد جهود مضنية من الحكومتين الجزائرية والليبية. br / لكن المحبط للسكان بحسب اتصال هاتفي مع مصادر «الحياة» في تنمبكتو أن الجيش الموريتاني هو الآخر في غارته الأخيرة ضد عناصر تنظيم القاعدة في الشمال المالي، لم تخل محاولته من استهداف مدنيين، عوضاً عن الاعتذار لأهاليهم، برر قتلهم بأعذار وصفت ب «الواهية». وذلك في إشارة إلى إطلاق إحدى طائرات الموريتانيين قذيفة، أودت بحياة زوجة وابنة سيدي ولد زيدو التي كانت في طريقها إلى بئر بغبر شمالي تنمبكتو. واستبعد الخبراء العرب في المنطقة كذلك، أن توافق العناصر المدربة من الشمال على الانتظام في ميليشيا تكافح «القاعدة»، فهم يعتبرون حكومات دولهم العدو التقليدي، وأي طرف آخر تحاربه أرحم منها، خصوصاً وأنهم حالياً إن لم يكونوا حلفاء مع القاعدة أيديولوجياً، فهم يتقاطعون معها في بعض المصالح، ولا تتعرض للسكان المحليين بسوء بالغ!