على رغم مظاهر الابتهاج التي طغت على المشهد الإسرائيلي فور إعلان فوز دونالد ترامب، رئيساً للولايات المتحدة، وفرحة المستوطنين واليمين الإسرائيلي بمجيء «مخلصهم» من الدولة الفلسطينية وانتقادات مشاريع الاستيطان في الضفة والقدس والضغوط التي يتعرضون لها للتوصل إلى تسوية تضمن إقامة الدولتين، فإن عدداً غير قليل من القادة والخبراء الإسرائيليين «داس على فرامل الفرح» واتخذ جانب الحذر. ليس فقط أولئك الذين يرفضون توجه اليمين والمستوطنين إنما أيضاً رئيس الحكومة، بنيامين نتانياهو، الذي عبّر عن فرحته بفوز ترامب لكنه اختار، هذه المرة، كلماته بحذر بل حرص على عدم الظهور بموقف داعم أصوات اليمين والمستوطنين، وطلب من وزراء حكومته عدم إطلاق التصريحات، عقب انتخاب ترامب، خصوصاً في شأن المستوطنات والقدس. ومن بعد أن هاتف الرئيس المنتخب مهنئاً، اتصل بالمرشحة الخاسرة هيلاري كلينتون، حتى يظهر التوازن. اليمين المتطرف لا يبالي بفكرة الحذر ويصر على أن مشروع الاستيطان يجب أن يزدهر في عصر ترامب. ويطالب بإطلاق عشرات المشاريع المجمدة. ويرى أن على الحكومة أن تتابع، بمثابرة، الجهود لكي تنفذ إدارة ترامب وعوده ووعود مستشاريه الاستراتيجيين بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس والتأكيد أن القدس «الموحدة» هي العاصمة الأبدية لإسرائيل. وهم يتوخون أن يؤدي موقف ترامب لجهة ضرورة استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين من دون شروط مسبقة، إلى إجهاض هذه المفاوضات تماماً بالتالي طمس فكرة الدولة الفلسطينية. وهم كانوا سجلوا تصريحات ترامب بالصوت والصورة، خصوصاً ذلك الذي قال فيه أن إسرائيل لا تحتل الضفة الغربية، وغيره من التصريحات الداعمة اليمين والمستوطنين التي شملها بيان نشره مستشاران كبيران في حملة ترامب، ويعتبرونه في إسرائيل «وثيقة». ولكن، عندما يتمّ الحديث عن رئيس جديد «بلا خبرة» و «غير متزن» و «غير موثوق» و «غير مستقر» و «لغز»، و «مندفع وغير متوقع»، وهذه صفات تم اقتباسها من تصريحات العديد من المسؤولين والخبراء الإسرائيليين المحذرين من ترامب، فإن الإسرائيليين مثل بقية البشر لا يخفون القلق من أن تتغلب شخصية ترامب على برنامجه السياسي ويقولون أنه لا يمكن الاطمئنان لأي تصريح يعلنه ترامب أو قرار يتخذه. لا يختلف إسرائيليان على أن ترامب مناصر لإسرائيل وسيكون حليفها في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وهو كرجل أعمال كانت له علاقات مع رجال أعمال إسرائيليين ويعترف بقوة إسرائيل الاقتصادية. رئيس حملة ترامب الانتخابية في إسرائيل، تسفيكا بروت، ليس مقتنعاً بأن ترامب سينفذ الوعود التي أطلقها، لكنه لا يشكك في أمر واحد هو: انتصاره جيد لإسرائيل. ووفق بروت، فإن موقفه ضد التنازلات من جانب واحد، قاطع، وسيظهر إصراراً أمام «اعداء» اسرائيل ويقف إلى جانبها في الأممالمتحدة، وبالتأكيد أكثر من الرئيس المنتهية ولايته أوباما. ويعتقد بروت أن كل حكومة في إسرائيل، وليست اليمينية فقط، ستجد في ترامب شريكاً مريحاً في كل اتجاه سياسي سترغب في قيادته. من جهة العلاقة مع نتانياهو يتفق الإسرائيليون على أن ترامب سيكون مقرباً من رئيس حكومتهم، بل سيظهر أمامه حالة من الدفء غير المسبوق من أي رئيس أميركي، خلال العقود الأخيرة. فهما يعرف بعضهما بعضاً منذ سنوات طويلة. وترامب كان تجند لحملة نتانياهو الانتخابية عام 2012. ويرى الإسرائيليون أن سيد البيت الأبيض المقبل سيكون أكثر وداً لإسرائيل. ويبقي على إسرائيل الحليف الأقوى والأقرب للولايات المتحدة. وإن كان من قلق، فإنه ينبغي أن يكون فقط في محور شخصية ترامب الفريدة ونزواته ومزاجه المتقلبين. فهناك من يعتبره رئيساً مهووساً. ويخشى من مغامرات تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط، وتسببه في صدام مع الحلفاء. وثيقة طمأنة الإسرائيليين عندما عبر اليمين الإسرائيلي والمستوطنون عن فرحتهم بفوز ترامب، اعتمدوا على التصريحات التي أدلى بها مستشارا ترامب للشؤون الإسرائيلية ديفيد فريدمان وجيسون غرينبلات، والتي نشرت في شبكات التواصل الاجتماعي والصحف وعرضت عبر التلفزيون الإسرائيلي الرسمي، وكلها وعود ترامبية لإسرائيل. في مضمون هذه الوثيقة فإن الولاياتالمتحدة ستحافظ على المصالح الإسرائيلية وهي تحمل موقفاً واضحاً من أن إسرائيل تحتاج إلى حدود قابلة للدفاع عنها، وتضمن السلام وتعزز الاستقرار الإقليمي. الإسرائيليون فهموا مضمون الوثيقة بصفتها رفضاً للعودة إلى حدود 1967، ومطالبة بعدم الضغط من أجل انسحابات تستدعي العدوان على إسرائيل مستقبلاً. كما أن الوثيقة تتحدث عن الحاجة إلى اعتراف أميركي بإسرائيل كعاصمة للدولة اليهودية والتي لا يمكن تقسيمها. وتشمل، أيضاً، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتطرح شروطاً لقيام الدولة الفلسطينية، من بينها عدم قيام السلطة الفلسطينية بتقديم محفزات للإرهاب ووقف «تمجيد المخربين»، وفي أهم جانب بالنسبة إلى متخذي القرار في إسرائيل فإن ترامب لا ينوي فرض اتفاق على إسرائيل والفلسطينيين، وإنما يرى أن عليهما التوصل إلى اتفاقات بينهما. هذه الوثيقة، وكما تراها الخارجية الإسرائيلية، «نقطة انطلاق للإدارة الجديدة»، وللتعامل مع هذه الانطلاقة أوكلت الوزارة إلى طاقم من الموظفين والخبراء إعداد دراسة واضحة ومعمقة لوضع خطة استراتيجية للتعامل مع واقع مختلف في ظل الرئيس الأميركي الجديد. وعلى رغم ما تحمله الوثيقة من طمأنة للإسرائيليين، فإن رئيس حكومتهم نتانياهو ما زال متحسباً ومتردداً جداً. وكما نقل عن مسؤول سياسي تحدث مع نتانياهو، خلال الأشهر الأخيرة، فإن رئيس الحكومة كان يبدو قلقاً بعض الشيء من إمكان فوز ترامب، بخاصة لكونه لغزاً سياسياً مطلقاً وغير متوقع. ووفق المصدر فإن «نتانياهو يعرف هيلاري كلينتون وعائلتها، ومحيطها والمتبرعين الكبار لها، منذ أكثر من 20 سنة، في السراء والضراء. إنه يعرف كيف يعمل معهم، وكيف يؤثر فيهم وكيف يتوصل معهم إلى صفقات وتفاهمات. أما ترامب فهو بالنسبة إلى نتانياهو رحلة في المجهول. لا يمكن معرفة ما الذي سيفعله حقاً عندما يدخل إلى منصبه، وماذا ستكون سياسته في الموضوع الفلسطيني، والإيراني والسوري». سبب آخر لقلق نتانياهو من انتصار ترامب، كما يرى سياسيون مقربون منه، فنتانياهو يرى في هذا الانتصار دعماً وتعزيزاً لقوى اليمين المتطرف في حكومته وداخل حزبه الحاكم «ليكود». فاليمين الإسرائيلي والمستوطنون لعبوا دوراً كبيراً خلال المعركة الانتخابية، كما أن مقدمي الاستشارة لترامب كانوا شخصيات يمينية متطرفة، بعيدة حتى من موقف بنيامين نتانياهو. هذه الوضعية دفعت اليمين ووزراء اليمين إلى إطلاق تصريحاتهم فور إعلان فوز ترامب، وكان نجمي هذه التصريحات الوزيران نفتالي بينت واييلت شكيد ونائب وزير الخارجية تسيبي حوطوفيلي، الذين وصلت نشوة فرحتهم إلى حد القول: «مع ترامب وداعاً للدولة الفلسطينية»، بل وصل الوزيران بينت وشكيد إلى أبعد من ذلك وعبرا عن رأيهما بالقول: «انتصار ترامب فرصة مواتية للحكومة الإسرائيلية كي تعلن نهائياً عن إزالة حل الدولتين عن جدول الأعمال». سورية - إيران القلق الأكبر رئيس معهد الأبحاث القومي، عاموس يدلين، يعتبر أن إسرائيل ستقف هذه المرة أمام إدارة أميركية جديدة غير متعمقة في القضايا الشرق أوسطية، ما سيجعل تصرفات إسرائيل وسلوكها ذات قيمة في تحديد سياسة إدارة ترامب. وعلى رغم مواقف متعددة ومختلفة يرى يدلين أنه لا يوجد بديل من الولاياتالمتحدة كأهم قوة داعمة لإسرائيل. ولا يمكن دولة أخرى، كروسيا والصين، أن تساعد الأمن الإسرائيلي ببلايين الدولارات كما تفعل واشنطن، كما لا يمكن توفير منظومات الأسلحة المتطورة للجيش الإسرائيلي من غير واشنطن، وعليه يضم يدلين صوته إلى أصوات المتريثين والداعين إلى عدم الانجراف في اتخاذ الموقف، فإسرائيل، برأيه، تملك فرصة لفتح صفحة جديدة، للتأثير في السياسة وحتى تصبح جزءاً لا يتجزأ منها. ويقدم يدلين نصائحه لنتانياهو والمطبخ السياسي المصغر من حوله فيقول: «عندما تتم دعوة رئيس الحكومة إلى البيت الأبيض، من المناسب التوصل مع الرئيس إلى تفاهم حول النقاط المهمة لإعادة العلاقات الخاصة وتعزيز التحالف الاستراتيجي بين البلدين، كاستئناف الثقة التي فقدت خلال فترة أوباما حيث ينصح بضرورة أن يطلع نتانياهو وترامب على المصالح العليا وعلى الخطوط الحمر لكل طرف وعدم مفاجأة أحدهما الآخر». أما الجانب الأهم الذي سيشغل إسرائيل في علاقتها بالإدارة الأميركية الجديدة، فيتعلق بأكثر الملفات قلقاً بين الإسرائيليين، بعد فوز ترامب، وهو الملف الإيراني والإيراني - السوري، خصوصاً أن ترامب يرغب في علاقة جيدة مع الروس، وهو ما أثار شعوراً لدى الإسرائيليين بأن العلاقات الأميركية - الروسية قد تأتي على حساب أصدقاء الولاياتالمتحدة في المنطقة، وإسرائيل في مقدمهم. ويكمن القلق الإسرائيلي في كيفية تعامل إسرائيل مع الوجود الإيراني وقوته العسكرية في سورية، وما يحظى به من دعم من جانب روسيا. أما من جهة الاتفاق النووي مع إيران فيتوقع الإسرائيليون عدم إلغائه من جانب الإدارة الأميركية الجديدة، غير أنهم يرون أن أخطاره على المدى القريب منخفضة، أما على المدى البعيد فهو اتفاق إشكالي، إذ يخشون أن تحصل إيران، لاحقاً، على شرعية لبرنامجها النووي الواسع، وأن تتقدم وتصل إلى مسافة الصفر من القنبلة. وفي هذا الجانب ينصح يدلين الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بالعمل على الاتفاق مع الأميركيين وفق مبدأ عدم منح الشرعية للمشروع النووي الواسع للدولة التي تدعو إلى تدمير إسرائيل، كما هو الأمر بالنسبة إلى إيران والعودة إلى التنسيق الاستخباري الكامل من أجل كشف الخروق الإيرانية، والاتفاق على قيام الولاياتالمتحدة بمنح إسرائيل كل القدرات العسكرية للعمل إذا تم استنفاد كل الوسائل الأخرى. بالنسبة إلى العلاقات الأمنية والدعم الأمني الاميركي لإسرائيل، فمن غير المتوقع أن يتم المس بها، إلا أن هناك مَن يتوقع أن ينطلق من هنا شيطان التفاصيل. إسرائيل ترى أن الصفات التي يتمتع بها ترامب قد تجعله يدير ظهره لها، وباعتباره رجل أعمال، كما قال أحد المتخوفين من مستقبل العلاقة في هذا الجانب، فإن ترامب يؤمن بأنه ما من وجبات مجانية، وهو ما يدفعه إلى التساؤل ما إذا كان يجب أن تحظى إسرائيل بالحصة الأكبر من موازنة الدعم الخارجي الأميركي، والتي تبلغ 3.8 بليون دولار في العام الواحد، وبأنه سيتساءل ما إذا كان هذا الاستثمار في محلّه ويحمل في طياته خيراً للمصالح الأميركية؟ في إسرائيل، يتوقعون أن ينشغل ترامب في الكثير من القضايا والملفات وألا يضع المنطقة على رأس سلم اهتماماته وسيحتاج إلى الكثير من الوقت للتعرف إلى التعقيدات والمشكلات التي تعيشها، وحتى يصل إلى استنتاجاته، من المؤكد أن إسرائيل ستحافظ على التعاون الأمني والاستخباري، وهذا بالنسبة إليها مهم جداً، إلى حين اتضاح سياسة الرئيس الأميركي العصية على التوقع.