تقدّم سلسلة حلقات تبدأ «الحياة» في نشرها اليوم للزميل كميل الطويل صورة لتنظيم «القاعدة» ربما لا يعرفها كثيرون من المتعاطفين مع هذا التنظيم في أنحاء العالم، كما لا يعرفها على الأرجح كثيرون من مناوئيه أيضاً. إنها محاولة لإلقاء «نظرة أخرى»، أكثر عمقاً بالتأكيد، إلى هذا التنظيم الذي أنشأه أسامة بن لادن في أواخر ثمانينات القرن الماضي في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية. إذ ليس هناك من شك اليوم في وجود حاجة ماسة للنظر بتمعن أكثر إلى «القاعدة» لتحديد ملامح «وجهها الآخر»، غير المعروف بالتأكيد لكثيرين ممن يرغبون في معرفة أين أخطأت وأين أصابت وهل ما تقوم به يؤدي فعلاً إلى الدفاع عن قضايا المسلمين، بحسب ما تزعم، أم أنه يؤدي إلى نتيجة معاكسة تماماً، كما يقول معارضوها. مثل هذه الدراسة هي حاجة ضرورية بلا شك لكل من مؤيدي «القاعدة» ومعارضيها ولمن يقف كذلك «في الوسط» لا يعرف هل يؤيد أو يعارض. في الحقيقة، هذه الدراسة التي تُنشر بدءاً من اليوم وعلى مدى ست حلقات، هي عملية «تشريح» لكل ما قام به تنظيم أسامة بن لادن منذ «غزوة نيويوركوواشنطن» في 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وحتى اليوم. عرض الزميل الطويل في كتابه «القاعدة وأخواتها» (عام 2007) وكتابه الصادر حديثاً «أخوة السلاح» (Brothers in Arms) لمراحل نشأة تنظيم أسامة بن لادن منذ 1988 وعلاقته بالجماعات «الجهادية» العربية خلال حقبة التسعينات وانتهاء بمرحلة تحوّله إلى «تنظيم أم» يملك فروعاً في أنحاء مختلفة من العالم. أما دراسة اليوم فتبدأ من مرحلة تحضير «القاعدة» ل «غزوة سبتمبر» في 2001 وتنتهي بوضعها الحالي اليوم في مناطق الحدود الأفغانية مع مناطق القبائل في باكستان. سيكتشف القارئ خلال هذه الحلقات أن تنظيم «القاعدة» كان يعرف أن «غزوته» ستجر ضربة أميركية لأفغانستان، لكنه لم يكن يتوقع أن يأتي الأميركيون بأنفسهم للمشاركة في القتال. فقد راهن زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن على أن الأميركيين «جبناء» لن يأتوا للقتال، لكنه أخطأ في ذلك. سيكتشف القارئ أيضاً أن القائد العسكري ل «القاعدة» محمد عاطف (أبو حفص المصري) كان يسعى إلى امتلاك أسلحة دمار شامل (نووية أو كيماوية أو بيولوجية) ليكون لديه «سلاح ردع» يمنع الأميركيين من التفكير في ضرب أفغانستان وقلب نظام حركة «طالبان». وسيعرف القارئ أيضاً تفاصيل الخلافات التي نشبت بين أسامة بن لادن ومعارضيه في داخل «القاعدة» وبقية الفصائل «الجهادية» في شأن مشروعية الضربة ضد أميركا، خصوصاً في ظل الشكاوى من أنها تتم في شكل مخالف لتوجيهات زعيم «طالبان» الملا عُمر، المفترض أن أسامة بن لادن قد بايعه على السمع والطاعة. سيطّلع القارئ أيضاً على تفاصيل عن المعارك الأساسية التي خاضها العرب في أفغانستان: كابول، مجمّع مطار قندهار وتورا بورا. في الأولى وعدت «القاعدة» بالقتال لكنها لم تُرسل أحداً ليشارك في معركة الدفاع عن العاصمة الأفغانية. في الثانية، قاد القيادي في «القاعدة» سيف العدل معركة الدفاع عن مجمّع مطار قندهار «من بعيد»، إذ كان يُعطي توجيهاته وأوامره من خلال جهاز للاتصالات لتنسيق الدفاع عن موقع كان من الواضح أنه لا يمكن الدفاع عنه عسكرياً إذا لم يكن لدى المقاتلين المتحصنين فيه منظومة متطورة للدفاع الجوي تمنع الأميركيين من السيطرة على الأجواء. قصف الأميركيون المجمّع الذي تحصّن فيه العرب في المطار ... وأبادوهم. أما في تورا بورا التي سارع إليها بن لان لقيادة المعركة شخصياً، فقد أثار تصرّف العرب سخرية كثيرين من المواطنين الأفغان من سكّان المنطقة. ضحك هؤلاء على «العرب المجانين» الذين صعدوا إلى قمم جبال سبين غار (الجبل الأبيض) المغطاة بالثلوج والذين لم يكن لديهم أمل حقيقي في الصمود طويلاً هناك قبل أن تُطبق عليهم «كماشة» البرد القارس والقوات الخاصة الأميركية والبريطانية التي صعدت لملاحقتهم مدعومة بمئات المقاتلين الموالين لأميري حرب محليين من قادة الجهاد الأفغاني. تستند الحلقات أساساً إلى روايات يقدّمها للمرة الأولى نعمان بن عثمان القيادي الكبير السابق في «الجماعة الإسلامية المقاتلة» الليبية. بن عثمان الذي يعمل اليوم كبيراً للمحللين ومسؤولاً عن الاتصالات الاستراتيجية في مجموعة «كويليام» البريطانية المعنية بمكافحة التطرف، يروي للزميل الطويل تفاصيل لقاءات سرية عقدها مع بن لادن وقائده العسكري «أبو حفص المصري» في أفغانستان، وتفاصيل اتصالاته مع قياديين «جهاديين» كانوا في أفغانستان وخرجوا منها بعد بدء الهجوم الأميركي في 2001 ثم عادوا إليها للمشاركة في ما اعتبروه «جهاداً» إلى جانب «طالبان». أحد أبرز هؤلاء كان «أبو الليث الليبي» الذي انضم رسمياً إلى «القاعدة» في 2007 ومعه «ثلة» من ليبيي «المقاتلة» والذي يكشف بن عثمان، للمرة الأولى، أنه كان على اتصال به في باكستان. يكشف بن عثمان أيضاً في هذه السلسلة من الحلقات تفاصيل مثيرة عن «فروع القاعدة» في أنحاء العالم العربي. يتحدث عن فرع «بلاد الرافدين» الذي أسسه «أبو مصعب الزرقاوي» وكيف انضم الأخير إلى «القاعدة» التي حاولت عبثاً احتواءه لكن جهودها باءت بالفشل وانهار معها مشروعها كله لمد نشاطها في المشرق العربي. يكشف الليبي، مثلاً، أن «القاعدة» كانت أصلاً تُمسك ب «رئة» الجهاديين جميعهم في العراق من خلال تحكمها بالمعابر الخمسة التي كان المتطوعون العرب مجبرين على استخدامها لدخول «بلاد الرافدين» عبر الحدود السورية. يكشف أيضاً معلوماته عن جهود إنشاء فرع ل «القاعدة» في «أرض الكنانة» من خلال إيكال هذه المهمة إلى «جهادي مصري» من أعضاء «الجماعة الإسلامية» هو محمد خليل الحكايمة. ويقدّم بن عثمان أيضاً معلومات مثيرة عن وضع «القاعدة» في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية، خصوصاً في منطقة شمال وزيرستان حيث يُعتقد على نطاق واسع أن «قيادة القاعدة» متمركزة هناك تحت حماية «تحريك طالبان باكستان» (فرع «طالبان» الباكستاني) و «شبكة حقاني» (التابعة لفرع «طالبان» الأفغاني). كما يكشف أجزاء من تقارير ميدانية يُرسلها عناصر «القاعدة» من جبهات القتال في داخل أفغانستان إلى قادتهم في وزيرستان، وفيها تقويم لأوضاع الجبهات التي قسّمتها «القاعدة»قسمين: جبهات تديرها «طالبان»، وجبهات يديرها «الأنصار»، وهؤلاء الأخيرون هم «مجاهدون» يقاتلون الأميركيين والحكومة الأفغانية لكنهم ليسوا أعضاء في «طالبان» وليس لهم الحق في منازعتها على السلطة. كما يكشف بن عثمان للمرة الأولى تفاصيل عن «الكتيبة 313» التي يرأسها حالياً «الياس الكشميري» وتقود عمليات «القاعدة» انطلاقاً من وزيرستان، والتي يُشتبه في تورطها في كثير من المؤامرات سواء في باكستان نفسها أو ضد الدول الغربية. رواية بن عثمان ستكون على الأرجح محور جدل. سينتقدها مؤيدو «القاعدة» التي يجاهر الليبي اليوم بمعارضته تصرفاتها. لكنها تبقى رواية تستحق التسجيل في أي سرد ل «تاريخ القاعدة». هذه الحلقات، إذن، محاولة لإلقاء «نظرة أخرى» على هذا التنظيم ورسم ملامح «وجهه الآخر». والكاتب إذ ينشر رواية بن عثمان فإنه ينشرها لأنها مبنّية على معلومات عن أحداث شارك الليبي نفسه فيها أو كان طرفاً مباشراً في التواصل مع «أبطالها». والهدف الأساسي من هذه السلسلة هو تقديم مادة خبرية بعيدة ما أمكن عن التحليل تسمح لمن يطلع عليها بأن يكوّن رأيه الخاص في «القاعدة»، سلباً أو إيجاباً. في صيف العام 2000، كان تنظيم «القاعدة» مشغولاً بإنهاء تحضيراته ل «الغزوة» التي كان يخطط لشنها ضد نيويوركوواشنطن. لكنه كان مشغولاً أيضاً بهاجس الرد الأميركي ونوعه. كان تنظيم أسامة بن لادن يعرف بلا شك أن ما سيقوم به في 11 ايلول (سبتمبر) 2001 لا يمكن إلا وأن يجرّ عواقب وخيمة على أفغانستان. في الحقيقة، لم يكن هذا التنظيم يخشى على مقاتليه. فهؤلاء، في تقديره، قادرون على إخلاء مواقعهم بمجرد صدور الأمر بذلك من قادتهم، وقادرون على التفرّق في أماكن نائية مختلفة بعيدة عن معسكراتهم وبعيدة أيضاً عن الأماكن الآهلة بالسكان. وهذه القدرة على «التشتت السريع» تسمح بتجنيبهم أذى كبيراً في حال قررت الولاياتالمتحدة أن ترد على «غزوة الطائرات المخطوفة» بضرب قواعد «القاعدة» في أفغانستان بعشرات، وربما مئات، صواريخ الكروز، تماماً كما فعلت في آب (أغسطس) 1998 رداً على تفجير سفارتيها في شرق أفريقيا. آنذاك، غادر قادة «القاعدة» معسكراتهم وتوزعوا في مناطق نائية في أفغانستان، إلى أن هدأت العاصفة. اكتفت الإدارة الأميركية – المنغمسة آنذاك في فضيحة جنسية بين رئيسها بيل كلينتون وموظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي – بإطلاق عشرات صواريخ الكروز ضد عدد محدود من مواقع تنظيم أسامة بن لادن في شرق أفغانستان، في ضربة لم تُفاجئ «القاعدة» ولم تُلحق سوى أضرار طفيفة بمعسكراتها. لكن قادة «القاعدة» كانوا يعرفون بلا شك في العام 2000 أن «غزوة نيويوركوواشنطن»، إذا ما نُفّذت بالطريقة التي يتم التخطيط لها، ستُرغم الأميركيين على الرد بضربة أكثر إيلاماً بكثير هذه المرة من ضربة عام 1998. لم يكن هؤلاء القادة يخشون كثيراً على أنفسهم من تبعات أفعالهم. فهم قادرون على تكرار ما فعلوا بعد تفجير السفارتين في نيروبي ودار السلام بحيث يتفرقون مجدداً في جبال أفغانستان، إلى أن تهدأ العاصفة. ولكن المشكلة الآن كانت تتعلق بحكومة «طالبان» التي تعيش «القاعدة» في ظل حمايتها والتي بايع أسامة بن لادن أميرها الملا عمر على «السمع والطاعة». كانت «القاعدة» تعرف أن الأميركيين قادرون على أن يدمّروا مؤسسات حكومة «طالبان» عقاباً لها على استضافتها منفّذي الهجوم الدموي الذي كان يتم التحضير له في معسكرات بن لادن في أفغانستان. كان ذلك هاجساً ظلّ يؤرّق بال قادة «القاعدة» منذ قرارهم السير في عملية 11 سبتمبر: كيف يمكن منع الأميركيين من معاقبة «طالبان» على أفعال «ضيفها» بن لادن؟ أسلحة الدمار كان من الطبيعي أن يكون محمد عاطف («أبو حفص المصري») أحد المكلّفين الأساسيين مهمة التعاطي مع الرد الأميركي المحتمل. فهو القائد العسكري ل «القاعدة» والرجل الثالث في هرمية التنظيم بعد أسامة بن لادن والدكتور أيمن الظواهري، زعيم «جماعة الجهاد» المصرية. كان عاطف، بحسب ما يقول الناشط الإسلامي الليبي البارز نعمان بن عثمان الذي اجتمع معه مطولاً خلال فترة تحضير «القاعدة» ل «الغزوة»، يأخذ على محمل الجد مخاطر الرد الأميركي وعواقبه الوخيمة على حركة «طالبان» وعلى الشعب الأفغاني. ويكشف بن عثمان، القيادي السابق في «الجماعة الإسلامية المقاتلة» الليبية، الذي اجتمع مع محمد عاطف وأسامة بن لادن وعدد كبير من قادة «القاعدة» لفترة تزيد على أسبوع في جلسات متواصلة في مدينة قندهار، جنوبأفغانستان، في صيف العام 2000، أي قبل عام من «غزوة سبتمبر»، أن «أبا حفص الكومندان» (المصري) جاهر أمامه – وأمام آخرين من الحضور – بأن التنظيم يريد الحصول على «سلاح» سيجعل الأميركيين يترددون طويلاً قبل أن يجرأوا على توجيه ضربة ضد حكومة «طالبان». كان السلاح الذي يسعى محمد عاطف إلى امتلاكه لإيجاد «توازن رعب» مع الولاياتالمتحدة أي نوع من أنواع أسلحة الدمار الشامل، سواء كانت نووية، كيماوية أو بيولوجية (جرثومية). ليست هذه المرة الأولى بالطبع التي تُكشف فيها معلومات عن سعي «القاعدة» إلى الحصول على أسلحة الدمار. فقد بات معروفاً الآن على نطاق واسع أن «القاعدة»، خلال وجودها في السودان في تسعينات القرن الماضي، سعت إلى شراء «قضبان نووية مشعة» (يورانيوم) مصدرها جنوب أفريقيا التي تملك مفاعلات ذرية. وقد دفعت «القاعدة» بالفعل أموالاً لضابط سوداني تمكن من تأمين هذه المواد المشعة لقاء تلقيه عمولة. وفي أواخر التسعينات (1999)، نُسب إلى القيادي في جماعة الجهاد المصرية أحمد سلامة مبروك الذي سُلّم من أذربيجان وحوكم في قضية «العائدون من ألبانيا»، أن «القاعدة» تسعى إلى شن عمليات مستخدمة أسلحة غير تقليدية. وبعد هجمات 11 سبتمبر، كشفت التحقيقات الأميركية أن «القاعدة» درست إمكان أن تشمل الهجمات بالطائرات المخطوفة ضد الولاياتالمتحدة مفاعلاً نووياً، إضافة إلى المواقع التي تم استهدافها – أو خُطط لاستهدافها - وعلى رأسها برجا مركز التجارة في نيويورك ووزارة الدفاع (البنتاغون) قرب واشنطن. كما كشفت معلومات عُثر عليها في جهاز كومبيوتر تابع للدكتور الظواهري تُرك خلال انسحاب «القاعدة» على عجل من كابول في 2001، أن تنظيم بن لادن درس فعلاً كيف يمكن شن هجمات بأسلحة جرثومية. وقد تأكد هذا الأمر لاحقاً عندما انكشفت المعلومات عن أن ل «القاعدة» معسكراً في جلال آباد (دارنوتة) يُشرف عليه مدحت مرسي السيد علي (أبو خباب المصري) ويتخصص في إجراء تجارب على الحرب الكيماوية والبيولوجية (قُتل «أبو خباب» بغارة أميركية على وزيرستان في تموز/يوليو 2008). وبالإضافة إلى كل ذلك، فإن من المعروف على نطاق واسع أن بن لادن نفسه كان من مؤيدي الحصول على أسلحة دمار شامل، وقد عبّر عن هذا الرأي أكثر من مرة في شكل علني قائلاً إن الحصول على أسلحة نووية واجب إسلامي. غير أن هذه المرة هي الأولى التي يُكشف فيها في شكل مباشر ونقلاً عن أبرز قادة «القاعدة» العسكريين، وبحضور أسامة بن لادن، أن التنظيم كان يريد «سلاح ردع» من نوع الأسلحة النووية أو البيولوجية أو الكيماوية لكي يمنع أن ترد الولاياتالمتحدة بعنف على «غزوة 11 سبتمبر» وتجعل حركة «طالبان» تتفادى دفع ثمن ما تستعد «القاعدة» للقيام به. يقول بن عثمان (أبو محمد الليبي): «كان واضحاً لي أنه لم يكن هناك اتفاق بين قادة «القاعدة» على طريقة الاستعداد لهجمات 11 سبتمبر. لم يكن هناك اتفاق على كيفية خوض الحرب ضد الأميركيين. فقد كانت هناك ضغوط عليهم (قادة القاعدة) من الملا عمر ومن قادة طالبان ومن الباكستانيين ومن بقية العرب. كلهم كانوا يطالبون بأن تتوقف هذه الحرب (التي تصرّ القاعدة على شنها ضد الأميركيين إنطلاقاً من الأراضي الأفغانية منذ إنشاء الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين في العام 1998). كان قادة القاعدة يحاولون حل هذه الإشكالية: كيف يمكن إنقاذ أفغانستان من رد الفعل الذي سيترتب على أفعالهم. ما أعرفه وما شاهدته (خلال المشاركة في اجتماعات قندهار الماراثوينة الشهيرة التي دامت أكثر من أسبوع في صيف العام 2000) أن المجموعة الرئيسية في القاعدة، بما فيها بن لادن، كانت متيقّنة من أن القوات الأميركية لن تدخل على الأرض ولن تقاتلهم وجهاً لوجه. من خلال الحوارات التي جرت معهم كان واضحاً أنهم لا يتصوّرون حصول دخول أميركي على الأرض. كان هذا رأيهم منذ أن عادوا إلى أفغانستان (من السودان) في العام 1996. كانوا يرون أن من المستحيل مجيء القوات الأميركية لتقيم وجوداً ميدانياً في أفغانستان. كان بن لادن يرى أن الأميركيين جبناء، وقد قال في إحدى المرات «إننا جرّبناهم في الصومال ورأيناهم (نمراً) من ورق». وصفهم بأنهم «جبناء»، وقال: «إننا أول ما ضربناهم في الصومال فرّوا» (في إشارة إلى جنود المارينز المشاركين في عملية «إعادة الأمل» عام 1993 في مقديشو). لقد شكّل ذلك نوعاً من الحالة لديه، وصار بن لادن يرى أن الفرار من طبيعة الأميركيين. في المقابل، كان قادة آخرون في القاعدة على رأسهم «أبو حفص» يريدون أن يحصل التنظيم على سلاح الردع قبل تنفيذ الضربة ضد أميركا لردعها عن القيام برد انتقامي عنيف». ويضيف هذا القيادي السابق في «المقاتلة» والذي شارك مع بعض قادة تنظيمه في الاجتماعات مع بن لادن في قندهار: «إضافة إلى اعتقاده بجبن الأميركيين، كان بن لادن يعتقد أيضاً أنه لا يمكن أن تتلقى القاعدة ضربة قوية على يد الأميركيين لأن ذلك سيعني مشاركة باكستان فيها. لم يخطر بباله قط أن باكستان ستكون منطلقاً للعمليات ضد تنظيمه. هم (بن لادن وقادته) تصوّروا أن أكثر ما ستعانيه أفغانستان (رداً على «الغزوة» التي كان يجري التحضير لها) سيكون قصفاً صاروخياً مكثّفاً، ولذلك فإن همّهم الأساسي كان منصبّاً على ردع مثل هذا القصف. كانوا يدرسون كيف يمكنهم أن يوقفوا صواريخ الكروز قبل أن تسقط على أفغانستان». ويكشف بن عثمان أيضاً: «كانوا (قادة القاعدة) يريدون الوصول إلى نقطة لا تستطيع فيها الإدارة الأميركية أن تستخدم صواريخ الكروز وسيلة للرد والانتقام. هم كانوا يعرفون أن أي ضربات ستكون قوية ومكثفة. قالوا إن الأميركيين ضربوا في المرة الماضية 75 صاروخاً، وفي المرة المقبلة ربما يطلقون 200 صاروخ. كانوا يُجرون مقارنة بين الرد على تفجير السفارتين في شرق أفريقيا وبين الرد المحتمل على 11 سبتمبر. سمعنا ذلك بوضوح في جلسات قندهار (صيف 2000). كانوا يقولون لنا: 200 صاروخ يمكن أن يكون الرد في الضربة المقبلة. وهم كانوا يعتمدون، في المقابل، على قدرتهم على الانتشار لتفادي أن يطالهم القصف الصاروخي الأميركي. ولكن الأمر الذي كان يضايقهم هو أن الملا عمر ومسؤولي حركة طالبان والشعب الأفغاني لا يمكنهم أن يأخذوا أوامر من بن لادن بالانتشار (مثلما يفعل مقاتلو القاعدة). أزعجهم هذا الأمر. فقد كان في مقدورهم أن يحافظوا على أنفسهم. قالوا لنا إننا قادرون - بعد أن نقوم بعملية – على أن نقوم بعملية انتشار، ولدينا أماكن كثيرة يمكننا أن ننتشر فيها خارج مواقعنا الأصلية. كان يمكنهم أن ينتشروا خارج مواقعهم لأسبوعين أو ثلاثة، أو أكثر، ثم يعودون إليها. ولكن المشكلة هي أنه لا يمكنك أن تعيد انتشار حكومة طالبان ووزرائها. لا يمكنك أن تطلب من حكومة طالبان وإداراتها أن تعيد انتشارها خارج كابول نتيجة قيامك بعملية غبية. هذه هي الإشكالية التي كانت لدى القاعدة: كيف يمكنك أن تقنع طالبان والملا عمر بتحمّل القصف الصاروخي الأميركي. «أبو حفص الكومندان» كان يرى أن الولاياتالمتحدة الأميركية لن ترتدع عن القيام بمثل هذا القصف إلا إذا حصلت القاعدة على قدرة الردع من خلال امتلاكها أسلحة غير تقليدية. فإذا حصلوا عليها وعلمت أميركا أنها في حوزتهم وأنهم مستعدون لاستخدامها، فإنها سترتدع عن القيام بمثل هذه الضربات - أو أنها ستضطر إلى الاكتفاء بعمليات سرية تهدف إلى محاولة اغتيالهم، ولكنها لن تفكّر في توجيه ضربة إلى أفغانستان. لذلك فقد كان واضحاً من النقاشات مع قادة القاعدة أن لديهم اشكالية كبيرة يريدون معالجتها وهي مرتبطة بكيفية تجنيب أفغانستان الضربة الأميركية». «هل سمعت هذا الكلام مباشرة من أبي حفص المصري»؟ رد بن عثمان بدون تردد: «لقد كنت جالساً معه في جلسات الحوار الطويلة في قندهار عندما حصل هذا النقاش في شأن الضربة التي تريد القاعدة شنها ضد أميركا. فقد كنت واحداً من الذين ضغطوا في شدة كي يتوقف بن لادن (عن حربه ضد أميركا). قلنا له إن مصالحك أنت ومصالحنا نحن (بقية الجهاديين العرب) كلها موجودة هنا في أفغانستان ولا يجب الإضرار بها. وكان واضحاً من نقاشاتنا مع القاعدة أن الإشكالية الأساسية لديها هي كيف يمكنها أن توقف هذا الضغط عليها وتضمن أن لا تدفع أفغانستان ثمن أعمالها هي. وهذا يتناقض مع الذين يقولون إن بن لادن كان منذ البداية يخطط لجر أميركا إلى أفغانستان وإغراقها في مستنقع هناك». «طالبان» والعرب كانت «القاعدة» وهي تُخطط لهجمات 11 سبتمبر تعرف أن كثيرين في أفغانستان لا يرحبون بحربها ضد الولاياتالمتحدة. كثيرون من «الجهاديين العرب» كانوا يريدون أن يعيدوا تنظيم أوضاعهم في أفغانستان بعد الهزائم التي مُنيوا بها في الشرق الأوسط خلال حقبة التسعينات، خصوصاً في مصر والجزائر وليبيا. كان هؤلاء يعرفون أن حرب بن لادن المفتوحة ضد أميركا قد تجرّ عواقب تؤثر عليهم جميعاً، من دون أن يكونوا طرفاً فيها. كما أن حركة «طالبان» نفسها، وهي الطرف الذي يستضيف هؤلاء الجهاديين العرب، وبينهم «القاعدة»، كانت ترى – أو على الأقل بعض قادتها يرون – أن جزءاً من العرب يتصرف في أفغانستان كما لو أنهم «دولة داخل دولة». وقد اتخذت الحركة الأفغانية الحاكمة مجموعة إجراءات آنذاك تم تفسيرها بأنها تدخل ضمن إطار «ترتيب البيت العربي» ووضعه تحت إشراف مباشر من وزارة الدفاع الأفغانية. فقد عيّنت حركة «طالبان» في العام 2000 وزيراً جديداً للدفاع هو الملا عبيد الله، وهو شخصية ليست سلفية بل ينظر إليه بعض العرب على أنه صوفي. سارع عبيد الله بعد توليه مسؤوليات منصبه إلى اتخاذ مجموعة إجراءات اعتبرها العرب تستهدفهم، وكان أبرزها إغلاق «معسكر خلدن» الذي كان يقوده إبن الشيخ الليبي في خوست، إضافة إلى معسكرات أخرى يديرها العرب. كما لجأت حكومة «طالبان» إلى وضع كافة الفصائل الجهادية – بما فيها الفصائل العربية – تحت إمرة «أعجمية»، إذ تولاها جمعة نامنغان القائد العسكري للحركة الإسلامية في أوزبكستان والرجل الثاني فيها بعد أميرها الطاهر جان (محمد الطاهر يولداشف). وإذا ما عُرف الخلاف الشديد بين يولداشف وبين زعيم القاعدة والذي لم يُحل سوى بعد تدخل الملا عمر، فإنه يمكن فهم مدى امتعاض العرب من قرار قيادة طالبان وضعهم تحت إمرة القائد العسكري الأوزبكي. وقد بات معروفاً اليوم أن سبب الخلاف بين «ضيفي طالبان» (العربي والأوزبكي) يرتبط بما اعتبره بن لادن تصرفاً غير مقبول من الطاهر جان تمثّل في إرساله شاحنتي بيك أب تحملان رجالاً مسلحين دخلوا عنوة «مضافة القاعدة» في كابول و «استعادا» شابين أوزبكيين كانا قد تركا تنظيمهما بعدما تأثرا ب «الفكر السلفي»، بحسب فهم تنظيم بن لادن له. كان كل ذلك يؤشر إلى أن «طالبان» ليست راضية تماماً عن نشاطات بعض العرب وتحديداً «القاعدة». ولكن ما زال مجهولاً حتى اليوم هل أبلغ بن لادن رسمياً قادة «طالبان»، بما في ذلك الملا عمر نفسه، بما تخطط «القاعدة» للقيام به في 11 سبتمبر 2001. غير أن نعمان بن عثمان يؤكد، في هذا الإطار، أن «طالبان» مثلها مثل كثيرين من العرب في أفغانستان كانت على دراية بالتأكيد بأن «القاعدة» تتحضر لتوجيه ضربة إلى الولاياتالمتحدة. بل هو يذهب أبعد من خلال تأكيده أيضاً أن قيادة «طالبان» حذّرت الولاياتالمتحدة مسبقاً من ضربة وشيكة تستهدفها، لكن الحركة لم تكن قادرة على تحديد هدفها ولا موعدها الدقيق. ويزعم بن عثمان أن قيادياً كبيراً في «طالبان» هو الملا جليل كان طرفاً أساسياً في نقل التحذير إلى الأميركيين. وإذا ما صحّت معلوماته، فإن ذلك يؤكد أن قيادة الحركة – وليس مجرّد شخص فيها - كانت تريد تحذير الأميركيين من عمل ما يستهدفهم. إذ معروف عن الملا جليل قربه الشديد من زعيم «طالبان»، بل هو يُعتبر واحداً من المؤسسين الأوائل لهذه الحركة إلى جانب الملا عمر والملا إحسان الله الذي قُتل في مزار الشريف عندما كانت «طالبان» تسعى إلى انتزاعها من يد مقاتلي حزب الوحدة الشيعي ومن يد المقاتلين الأوزبك المؤيدين لزعيمهم عبدالرشيد دوستم في أواخر التسعينات. ويقول بن عثمان في هذا الإطار: «قبل تنفيذ عملية 11 سبتمبر بأسبوع تقريباً أصدر الملا جليل أمراً إلى أحد المسؤولين عن ممثلية «طالبان» في نيويورك يطالبه فيها بإبلاغ الإدارة الأميركية بأن القاعدة بصدد شن هجوم ضد الولاياتالمتحدة. تم إبلاغ الأميركيين بأن ثمة نقاشات وتحركات لافتة للقاعدة في أفغانستان، وأن العرب سحبوا مقاتليهم إلى خارج كابول، كما أن هناك عملية انتشار لافتة للمقاتلين خارج مواقعهم، وبعضهم يتجه إلى تورا بورا. قالت «طالبان» في تحذيرها للأميركيين إن القاعدة على وشك تنفيذ عملية على ما يبدو، ولكنها لا تعرف موعدها ولا هدفها». وليس واضحاً لماذا أرادت «طالبان» تنبيه الأميركيين إلى الضربة الوشيكة ضدهم، وهل كانت تريد أن ترفع مسؤوليتها عما يمكن أن يحصل وتتفادى بالتالي تلقي ضربة أميركية انتقاماً لهجوم «القاعدة». غير أن الأكيد الآن أنه كانت لدى الأميركيين في تلك الفترة مؤشرات كثيرة تسمح لهم بأن يقدّروا أن «القاعدة» بصدد القيام بهجوم وشيك. لكن تحذير «طالبان» كان على ما يبدو غامضاً كغيره من التحذيرات التي وصلت إلى الأميركيين، إذ لم يُحدد لا هدف الضربة ولا موعدها الدقيق. وفي واقع الأمر، لم تكن «طالبان» وحدها آنذاك على علم بالضربة الوشيكة. فبن عثمان يؤكد أن قادة تنظيمه السابق، أي «الجماعة المقاتلة»، كانوا في كابول عندما أبلغهم بن لادن - مع غيرهم من قادة الفصائل «الجهادية» – بأن الضربة ضد أميركا باتت وشيكة وأن عليهم الاستعداد لما يمكن أن يكون عليه الرد الأميركي. ويوضح: «قبل أسبوع أو أكثر بقليل من 11 سبتمبر انتشرت أخبار في أفغانستان عن أن هناك عملية ستحصل وستؤدي إلى نوع من الربكة وأن على الناس الاستعداد. كثيرون من الأخوة وكثير من قادة الجماعات – من غير «القاعدة» – بدأوا يُجرون نقاشات في شأن ما يمكن أن يحصل بعد الضربة الوشيكة ضد الولاياتالمتحدة. دار آنذاك خلاف علني بين مؤيدي الضربة ومعارضيها. فالدكتور أيمن الظواهري كان يجول على المعسكرات لتحضير الناس لتقبّل تبعات الهجوم الذي كانت القاعدة على وشك شنّه، وكان يقول للناس إن الإمارة عطّلت الجهاد وأي جهة تعطّل الجهاد لا سمع ولا طاعة لها. رفض هذا الرأي أبو حفص الموريتاني (مسؤول اللجنة الشرعية في القاعدة) وحصلت مشادات عنيفة بينه وبين الظواهري حضرها مئات الأشخاص في المعسكرات، الأمر الذي اضطر الظواهري إلى أن يطلب من بن لادن أن يلجم أبا حفص الموريتاني بحجة أنه يضر بمصالح القاعدة وخططها بعدما فشل في محاججته شرعاً». ويضيف بن عثمان: «بدأت النقاشات بين العرب قبل العملية بوقت قصير – ربما أسبوع - وامتدت إلى ما بعد الضربة نفسها. إن فهم تصرّف العرب في أفغانستان بعد الضربة مهم لأنه يُحدد مدى تأثير تنظيم القاعدة على الكتلة الجهادية الموجودة هناك. وفي الواقع، غادر معظم العرب فوراً المنطقة وأخذوا تصوراً آخر مخالفاً للقاعدة ولم يلتحقوا بها ولم ينضموا إلى قوتها القتالية. في المقابل، لم يغادر عناصر القاعدة المنطقة حتى اليوم - من بقي حياً منهم أو لم يعتقل. عناصر القاعدة بقيت في المثلث الأفغاني - الباكستاني - الإيراني. وهذا المثلث حتى هذه اللحظة يؤوي جميع أفراد القاعدة أو من التحق بالتنظيم بعد الضربة». [email protected]