أن يحتفي مهرجان «ألتان كوزا» السينمائي الذي تعتبر تظاهرة «أضنة للفيلم القصير في البحر المتوسط» من أبرز فعالياته، بفلسطين قبل مجزرة أسطول الحرية شيء، وأن يحتفي بها بعد المجزرة شيء آخر. كيف لا والبحر الأبيض المتوسط شهد معمودية من دم بعد سقوط اتراك قتلى في سبيل الدفاع عن غزة؟ معمودية عززت التقارب العربي - التركي، وتركت علامات استفهام كثيرة عند جيران العرب، ومنهم جمهور هذا المهرجان الذي افتتح أبوابه الاثنين ويستمر حتى الأحد، مخصصاً اليوم حلقة نقاش مفتوحة امام الجماهير للتعرف الى فلسطين من خلال سينمائييها. «ماذا يعني ان تكون سينمائياً فلسطينياً، خصوصاً ان غالبية الإنتاجات الفلسطينية تتمحور حول القضية الفلسطينية ومشاكل الفلسطينيين؟». سؤال تطرحه منسقة الجلسة ألين تاشيان على ضيوفها، كما تقول ل «الحياة»، وتضيف: «لا وجود لفيلم فلسطيني واحد، سواء كان روائياً او وثائقياً، من دون التزامات سياسية. من هنا اريد ان أعرف كيف يتعامل السينمائيون الفلسطينيون مع الجانب الفني والإبداعي والإنتاجي عند صنع أفلامهم. لديّ أسئلة كثيرة تدور في رأسي. مثلاً: ما هي المشاكل التي تواجههم؟ هل في إمكانهم حقيقة ان يعبروا عن مشاعرهم وأفكارهم من خلال الأفلام؟ هل يواجهون ضغوطاً كثيرة؟ هل هم سعداء بطريقة استقبال افلامهم في العالم كله؟»... أسئلة لن يكون صعباً الإجابة عنها، خصوصاً ان السينما الفلسطينية انتقلت، كما يرى النقاد، من سينما مطمئنة على فوزها بالمهرجانات باسم القضية الى سينما جديرة بالتصفيق. بل ان بعضهم يذهب بعيداً، فلا يجد مانعاً من القول ان مستقبل السينما العربية سيكتبه سينمائيون فلسطينيون. من هنا، لا يعود غريباً ان ينتزع فلسطينيون جوائز المهرجانات العربية خلال السنة الماضية: «الزمن المتبقي» لإيليا سليمان في مهرجان أبو ظبي، «أمريكا» شيرين دعيبس في القاهرة وبيروت، «زنديق» ميشال خليفي في دبي، و «المرّ والرمان» لنجوى نجار في الدوحة والرباط. ما بعد الإيديولوجيا طبعاً، سيستغرب كثر ممن يتابعون أخبار مآسي فلسطين والتجاذبات السياسية داخل البيت الواحد، ان تكون هناك أصلاً سينما فلسطينية، فكيف بالأحرى سينما جيدة آتية من هذا البلد الذي يعيش صراعاً عمره عشرات السنين. كما سيُفاجأون حين يسمعون عن سينما تركت زمن الايديولوجيا والمواعظ والشعارات الرنانة وأعطت الكلمة للإنسان، فاستطاعت ان تخترق حواجز الصمت. سينما روائية طويلة حملت تواقيع مبدعين فلسطينيين مثل ايليا سليمان، هاني ابو أسعد، ميشال خليفة، رشيد مشهراوي، نجوى نجار، شيرين دعيبس، وتسجيلية طويلة مع مي مصري وآخرين... وسينما قصيرة لا تقل تعبيراً مع ليانة بدر، نصري حجاج (مشاركان في الندوة)، عليا أرصغلي، وسواهم الكثير ممن آمنوا بسلاح الصورة. سينما لا يمكن ان تبتعد من معاناة الفلسطيني طالما لا يزال الواقع بهذه السوداوية. حتى ولو كان كثر ممن يحققونها إما يعيشون خارج فلسطين، او داخل ما يعرف بفلسطين 48. لكنّ جماهير مهرجان أضنة لن يكونوا فقط امام العروض الفلسطينية. فمهرجان أضنة هو في الحقيقة ثلاثة مهرجانات في واحد، وفي الأماكن نفسها وفي الفترة نفسها. فهناك طبعاً مهرجان الفيلم القصير وبرنامج فلسطين، لكن هناك أيضاً برنامج عروض واسعة للسينما الروائية التركية الجديدة. وهناك بعد ذلك برنامج أفلام طلاب معاهد السينما في تركيا وفي غيرها... وهذا ما يتيح للجمهور وللمتخصصين إطلالة على أنواع سينمائية عدة في زمن قياسي. صحيح ان المهرجان ككل تأجّل من حزيران (يونيو) الى أيلول (سبتمبر) بسبب ما حدث في 31 أيار (مايو)، ذاك اليوم المشؤوم في تاريخ العلاقات التركية - الإسرائيلية. وصحيح، أيضاً ان نائب مدينة أضنة مصطفى تنكل لم يبال باحتجاجات جمعية نقاد السينما الأتراك، واعتبارهم ان تأجيل أو إيقاف المهرجان الذي يخصص برنامجاً بعنوان «فلسطين: توق للسلام» إنما من شأنه إسكات أصوات سينمائيين فلسطينيين... فكان ردّه يومها: «لا يمكن ان نستمتع بينما الشعب يبكي». صرخة لم تمنع، كما يبدو، مشاركة إسرائيل في المهرجان، ولو من طريق ثلاثة أفلام: اثنان روائيان، وواحد تحريك. والدول العربية حاضرة أيضاً. فمن لبنان هناك فيلم للمصور ميلاد طوق. ومن تونس فيلم تحريك ومن مصر فيلم ذو نكهة اجتماعية ومن المغرب فيلم آخر. لكن العرب على تنوع أعمالهم ومشاريعهم ليسوا وحدهم في مهرجان «أضنة». بل انهم، إذا استثنينا الحضور الفلسطيني، يشغلون غالباً الهامش. إذ، حتى وإن كانت العروض والندوة الفلسطينية بارزة، فإن مهرجان «أضنة» كما قلنا مهرجان شديد التنوع، حيث رأينا كيف انه في حقيقة أمره يشغل أربع أو خمس تظاهرات في مهرجان واحد... تتواكب مع تكريمات لبعض أشهر الفنانين الأتراك. وكل هذا خلال ايام قليلة، في هذه المدينة الفاتنة التي تقع غير بعيد من الحدود التركية - السورية، في شكل يجعلها مدينة تمازج بين البعد التركي الخالص والبعد العربي والبعد الأوروبي. بل ان كثراً يقولون انها بالنسبة الى القادم من الشرق الأوسط العربي، تكاد تكون أول مظهر من مظاهر المدن الأوروبية، بينما تبدو بالنسبة الى القادم من أوروبا أول مظهر من مظاهر الاحتكاك بهذا الشرق العربي. من هنا، لا يتعين على أي كان ان يستغرب إن دخل حانوتاً وسمع شخصين فيه يتحدثان العربية باللهجة السورية. ليس ذلك تيمناً بالمسلسلات التركية التي ذاع صيتها في بلادنا باللهجة السورية، ولكن ببساطة لأن سورية قريبة من هنا. ولئن كانت لعقود طويلة من السنين تبدو قريبة جغرافياً فقط، فإنها الآن تبدو قريبة سياسياً واجتماعياً وتاريخياً أيضاً. وهذا جديد لم يكن أحد ليتوقعه قبل سنوات قليلة. وها هو هذا الغرب يتضافر اليوم مع عودة تركيا والأتراك عموماً للاهتمام بفلسطين، سينمائياً في ما يعنينا هنا. ومن هنا لا يستغرب أحد ان يلقى الجانب الفلسطيني من مهرجان «أضنة» من الاهتمام الذي لا شك سيتوج اليوم، الجمعة، بالندوة المتنوعة حول السينما الفلسطينية وبكثافة الاهتمام بها، ما من شأنه، ليس فقط ان ينعكس إيجاباً على السينما الفلسطينية الصاعدة بقوة وعلى صانعيها، بل كذلك على السينمات الأخرى، حيث من المؤكد ان نجاح الحضور الفلسطيني لدى الجمهور التركي، سيؤدي في دورات المهرجان المقبلة الى حضور عربي أكثر كثافة وقوة وتنوعاً. وفي هذا المجال، إذاً، ها هي فلسطين تقود الخطى العربية! أياً يكن الامر، الأكيد ان صورة هذا كله ستتبلور خلال الأيام المقبلة، أي عند ختام المهرجان وخلال المرحلة التالية له... حيث مهما كانت نتائج المسابقات واستخلاصات الندوة، لا شك في ان السينما العربية في مجملها ستكون الرابحة، في شكل يردّ إيجاباً على الاستقبال العربي الذي حظيت به الدراما التلفزيونية التركية في بيوت العرب.