للمرة الأولى في تاريخهم الحديث، يتمكن الأكراد من البحث عن أصدقاء لهم وراء الجبال. لم يكن الأمر هكذا حتى وقت قريب. وأدى الفشل في التفاوض لاقامة دولتهم، غالباً بسبب انعدام القدرة على التقدم بجبهة موحدة في اعقاب انهيار الامبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الاولى، إلى عزل جماعاتهم في اربع دول (العراق وسورية وتركيا وايران)، وأخرس أصواتهم على الساحة الدولية خلال القسم الأعظم من القرن العشرين. أثناء ذلك، تعرض الأكراد بصفتهم اقلية في نظر الايديولوجيات القومية العربية والتركية والفارسية الى التمييز والاقصاء بل وفي بعض الاحيان الى الابادة. اليوم تحسن وضع المجموعة العرقية الأكبر في الشرق الاوسط المحرومة من دولة، لكن الاربعين مليون كردي يواجهون مجدداً فرصة تحمل مسؤولية شؤونهم. وتمكن الاكراد من إنشاء حكم ذاتي في العراق منذ 1991 (...). في سورية ومنذ بداية الانتفاضة على نظام الرئيس بشار الاسد، سيطر الاكراد على مناطقهم في الشمال الشرقي بما فيها كوباني (عين العرب) وعفرين. وأسست المجموعات الكردية حكماً ذاتياً فيما تحارب القوات الموالية للنظام والمعارضة له. وتصاعدت المعارك أخيراً ضد المجموعات السنّية - الأسوأ سمعة بينها «جبهة النصرة» و «الدولة الاسلامية في العراق والشام» المرتبطتان ب «القاعدة» - التي شنّت هجمات على الاكراد سعيا الى اقامة حكمها الذاتي الخاص في تلك المناطق. أسفر ذلك عن تصعيد الشعور بالاتحاد في صفوف الاكراد وارسلت قوات من مختلف انحاء المنطقة للحفاظ على الحكم الذاتي الجديد لاكراد سورية ولتوسيعه. وغيّر «حزب العمال الكردستاني» في تركيا (...) سياسته وانخرط في مفاوضات ذات مغزى بدأت بانسحاب مقاتليه من المناطق التركية نحو العراق. أما في إيران، فقد صوّت الأكراد الى جانب الرئيس الفائز حسن روحاني الذي تعهد منحهم حقوقاً أوسع اثناء حملته الانتخابية. وأخذا في الاعتبار الشكوك المحيطة بالدول الموحدة في العراق وسورية وغيرهما، استعادت القيادات الكردية أصواتها وتحاول التقدم ببطء نحو التفاوض على شؤونها في حقبة تشبه تلك التي اعقبت الحرب العالمية الاولى. ولإدراكه الفرصة، بادر رئيس اقليم كردستان العراق مسعود بارزاني مدعوماً من نظيريه في الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني وحزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وهما خصمان سابقان، الى دعوة الاكراد من الدول الاربع الى مؤتمر وطني كردي تاريخي مقرر في 24 آب (أغسطس). تبحث القيادة الوطنية في هذه الجولة من مفاوضات الحكم الذاتي، عن ضمانات بألا تتكرر الأخطاء التي كلفت الاكراد خسارة حكمهم الذاتي اوائل القرن العشرين في الوقت الذي يعاد فيه تشكيل الشرق الاوسط في بداية هذا القرن. السؤال عن سبب عقد المؤتمر الآن يصبح واضحاً عند النظر الى نواحي التعاون المختلفة. سياسياً، يقرأ الثلاثة الكبار في عالم السياسة الكردية حالياً، بارزاني وطالباني وأوجلان في الصفحة ذاتها. والعلاقات الداخلية بين الاحزاب الكردية الممتدة على الدول الاربع، في أفضل حالاتها. وقال الرئيس السابق لبرلمان كردستان، كمال كركوكي ان المؤتمر المنتظر يسعى الى حظر بل الى تجريم الاقتتال بين الاحزاب الكردية بهدف حماية الشعب الكردي. هناك أيضاً من ظل على الهامش. حركة التغيير «غوران» التي تتحدى امساك الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني للسلطة في عاصمة الاقليم الكردي، أربيل، اشارت الى انها لن تشارك في المؤتمر. وزار رئيس العلاقات الخارجية في حزب العمال أحمد دنيز زعيم «غوران» ناشيروان مصطفى لمعالجة المسألة واتفقا على تسويتها عبر نقاش داخلي قبل بدء المؤتمر. من الناحية الجيو-سياسية، أنشأ التوازن السياسي في الشرق الاوسط الى جانب طبيعة وفهم الحكومات المركزية، الظروف الضرورية التي تسمح للأكراد بمتابعة جهودهم نحو الوحدة. يصدر ذلك جزئياً عن الشكوك المحيطة بمستقبل الدول الموحدة التي اقامتها بريطانيا ذات الحكومات المركزية القوية، على غرار تلك الموجودة في دمشق وبغداد والتي تحولت الى كيانات فيديرالية لا مركزية. لم يعد هناك رجال اقوياء في السلطة من صنف الرئيس السوري السابق حافظ الاسد او نظيره العراقي صدام حسين. اتاح ذلك للأقليات مثل الاكراد البيئة اللازمة للسعي الى حكمهم الذاتي مقابل الحكومات المركزية الضعيفة. واحد من دوافع بارزاني في الدعوة الى المؤتمر هذا، هو طموحه في ان يكون زعيم الاكراد القومي، خصوصاً في ظل صراع محتمل على السلطة مع زعيم «حزب العمال الكردستاني» اوجلان. ويحظى هذا تقليدياً بشعبية اوسع في الشارع الكردي بفضل موقفه غير المشروط المُطالب باستقلال «كردستان الكبرى»، فيما تعرض الاول الى انتقادات لتركيزه على مقاربته الضيقة «للفيديرالية ضمن العراق» ولتفضيله تعزيز الروابط السياسية والاقتصادية مع تركيا التي تناصب حكومتها العداء تقليدياً للقومية الكردية. بيد أن المؤتمر اعاد احياء المخاوف القديمة من الأطماع الخارجية بضم المنطقة. مصادر القلق هذه التي تشغل حكومات تركيا والعراق وسورية وايران، استخدمت لتذكير الأكراد بأن الاقتتال في ما بينهم لا يؤدي سوى الى تعزيز القوى الخارجية. وبدلاً من «كردستان الكبرى»، سيجري نقاش المسألة الكردية نقاشاً منفصلاً ضمن كل كيان سياسي. وبنتيجة المعادلة الاقليمية هذه، يأمل بارزاني بظهور مشاريع حكم ذاتي كردية على حدوده اكثر وداً ما يتيح لاقليم كردستان العراق الأمن اللازم لمتابعة نموه الاقتصادي. * تباعاً، باحث في «معهد العراق للدراسات الاستراتيجية» في بيروت والأمين العام السابق لاتحاد طلاب كردستان، عن «فورين بوليسي»، 14/8/2013، إعداد حسام عيتاني