في مقال للروائي والناقد الصديق نبيل سليمان، نشرته «الحياة» (1/9/2010)، عن رواية سمر يزبك «لها مرايا» (دار الآداب، 2010)، يطغى حسُّ المحاسبة والتنقيب عن ما يعتبره ثغرات، من دون احتفاء بمميزات النص وجاذبيته القرائية وإيحاءاته المثيرة للتأمل. ويظهر أن مسألة «مرجعية» رواية «لها مرايا» قد استأثرت باهتمام الناقد وجعلته يستحضر نصوصاً لها المرجعية نفسها المحيلة على الطائفة العلوية في سوريا، منقاداً مع الأبعاد السياسية والإيديولوجية، غافلاً الرؤية المركبة التي نسجتْ خيوطها سمر يزبك مُتخذة من المرجعية فضاء يتعدى واقعيته إلى مستوى تخييلي ذي أبعاد مأسوية. وقبل أن أناقش العلاقة بين «المرجعية» و«التمثيل الفني» و«التخييل»، أقترح عناصر أخرى للقراءة انطلاقاً من مكونات النص وشكله، تتيح تأويلاً يأخذ في الاعتبار مجموع الدلالات ولا يتوقف عند التلخيص والقراءة المرجعية التي تبخس « لها مرايا» حقها، إذ تهمل ما تتضمنه من تعدد لغوي وحبكة جاذبة، ورؤية إنسانية. بناء يُزاوج بين الواقعي والأسطوري: ينطلق النص من وصف حدث موت رئيس الجمهورية ومراسم الدفن منقولة عبر التلفزيون، ويقرن ذلك بوصف الحالة النفسية لسعيد ناصر المقرب من الرئيس الراحل، وبخروج ليلى الصاوي من السجن بعد أن فقدت حبيبها سعيد ونجوميتها لدى الجمهور الذي كان يتابع مسلسلاتها التلفزية . بعبارة ثانية، انها بداية من نهاية أحداث الرواية، ما يضفي عليها طابعاً دائرياً يسلمنا في الصفحات الأخيرة إلى تكملة لتلك البداية . يكون واضحاً، عندئذ، أن ليلى الصاوي وسعيد ناصر هما الشخصيتان الأساس في الرواية وأن بقية الشخوص (عليّ،الجدّ، ماري وأمها العمياء) هي عناصر إضافية لتأثيث فضاء الرواية واستكمال أجوائها التي تنوس بين الواقعي الموصوف، والأسطوري الغائص في تاريخ الحيوات وجذورها وما قبل مجيئها إلى هذه الصيغة الحالية من حياتها. وأظن أن هذا المحفل السردي الواقع بين الملموس، الظرفي، والأسطوري المستدعى من تاريخ الطائفة و« رواية العائلة»، هو ما يعطي ل « لها مرايا» إيقاعها ومجالها التأويلي . وتحتلّ ليلى الصاوي وأخوها عليّ والجَدّ، مكان البوصلة الناقلة للأحداث من مستواها الواقعي إلى المستوى الأسطوري والميتافيزيقي . إلا أن ليلى تظل هي البطلة الإشكالية لأنها بمسارها الحياتي، تجد نفسها موزعة بين قيم التبادل ( الشهرة، عشيق من ذوي السلطة يحميها ...)، وقيم الاستعمال (تراث الطائفة ومبادئها الأصيلة، رسائل الجد وحكاياته، معارضة اليسار التي يمثلها أخوها...). ولعل هذا هو منشأ البعد المأسوي في الرواية، لأن ليلى المتحدّرة من طائفة لها محتد وأصل وتعاليم، تنجذب إلى لألاء دمشق وسهراتها ومغامراتها فتلتقي الحب الجارف وتلامس السعادة التي ارتسمتْ ملامحها في إحدى مرايا غرفتها، لكنها سرعان ما تستفيق على دويّ القدر المتربص بها، وكأن الحب مجرد حلم خاطف استعادته من حيوات سابقة عاشتها في أزمان فائتة. بعبارة أخرى، لا تريد ليلى أن تستسلم أمام عوامل ملموسة تعدم حبها، فتلجأ إلى ذلك المخزون من روحانية الطفولة لتقاوم الخيبة وتلاشي العواطف: «.. حتى الآن لم تصدق ليلى ما حدث وتوصلت إلى نتيجة أنها عاشت حلماً رأته في طفولتها، مع رجل وضعه القدر في طريقها ليسلبها حياتها. ولأنها نذرت نفسها للريح، لم تفكر إلا بأمر واحد: ألا تفارق ذلك الرجل حتى الموت...» ص 200. أمام مأساة نابعة من واقع ملموس، تتشبث ليلى بمنطق القلب لتنكر الخسارة: «لا أظن أني أعيش حياة شخص آخر. أعتقد أن حياة واحدة لا تكفي الإنسان. أريد العيش ضمن هذه الكثافة التي تمنحني إياها حيواتي ...» ص209 . في مقابل هذا الموقف الجذري، الأنثوي، نجد موقف سعيد ناصر العاشق المفتون بليلى وحكاياها، يتخلى عن حبه لأن مجابهة ليلى لسلوكه السلطوي (هو مَنْ عذب أخاها عليّ) يمس بمركزه في أجهزة الدولة الحاكمة، الكاتمة لأنفاس اليسار. ورد فعل سعيد هذا، تبرره جاذبية السلطة على رغم انتمائه إلى الطائفة التي تمتلك مبادئ تتعارض مع واقع حال الطائفة وقد وصلتْ إلى السلطة. يتبين من تحليل بناء «لها مرايا» أن الحبكة المعتمدة على حب جارف بين ليلى الصاوي وسعيد ناصر لا تقتصر على المستوى العاطفي المألوف في قصص الحب والغرام، بل هناك مستوى آخر يضفي على الرواية أبعاداً أعمق، يمكن أن نلخصها في اثنين: الأول هو ذلك البعد التراجيدي الذي يلاحق الإنسان منذ الأزل، ليجعل نزوعاته ونزواته وعواطفه محفوفة دوْماً بصراع مع المواضعات والتقاليد والسلطة، ويجعل الحب يؤول في نهاية المطاف إلى نوع من الابتذال والخمود وغبار النسيان. ولكن النص يوحي برؤية مضادة عندما يجعل ليلى الصاوي تقاوم هذا التلاشي بأفق متعالٍ يتمثل في استحضار حيوات أخرى عشناها أو نعيشها في أزمنة متخيلة... والبعد الثاني، يتمثل في تكسير «تفوُّق» الطائفية التي تحرص على أن تبدو متلاحمة، منزهة عن الخطأ والانقسام. ذلك أن حبكة «لها مرايا» تقوم على إبراز الصراع بين أبناء الطائفة نفسها، لأن العواطف والمصالح لا تعترف بأسيجة الطائفية ولأن التاريخ في مجراه المادي الملموس هو أقوى من تعاليم يسطرها الأجداد. ومن ثمّ نجد الجد يقول لحفيديه في رسائله: «..فالتعصب هو سبب كل عقدة ومشكلة، ولا أريد لحفيديّ وحبيبيْ فؤادي التنصل من أهمية الاختلاف...» ص231. على ضوء ذلك، نجد أن الرواية تعيد للطائفة طابعها الإنساني إذ تجعلها مجالاً للحب والكراهية والصراع بين المصالح والمواقف السياسية... ولا يتسع المجال، هنا للمضيّ في تحليل بقية مكونات الرواية وإيحاءاتها الدلالية ( تعدد مستويات اللغة والأصوات، المزاوجة بين المشهدية والخطاب التأملي ...)، ولذلك أريد أن أعود إلى ما اعتبرته في مقال نبيل سليمان مصدر التباس يغمط «لها مرايا» حقها. بطبيعة الحال، من حق الناقد أن ينتقد النص ويسجل رأيه في التحقق الفني والدلالي، لكن الأهم هو ألا يغفل العناصر الإيجابية التي تنطوي عليها الرواية ضمن إطار النسبية والقراءة التأويلية المحددة لعناصرها. وأظن أن الصديق نبيل لم يميز بالقدر الكافي بين «المرجعية» و «التمثيل» و «التخييل» التي هي عناصر جوهرية في صوغ الحقيقة الروائية ذات التعاريج والالتواءات. فإذا كانت المرجعية عنصراً مشتركاً بين كل الروايات لأنها تحيل على وقائع أو أحداث أو شخصيات، فإنها لا تحسم البناء الروائي لأن عنصر التمثيل الفني وشكله، وكذلك عنصر التخييل هما الوسيلتان اللتان يعتمدهما الروائي ّ لبلورة رؤيته إلى العالم واستثارة أسئلة تخاطب القارئ. والروائي لا يتوخى التأريخ ولا الصوغ الفلسفي، لأن مبرر الرواية – في نماذجها الجيدة – هو أن تقول الأشياء والعالم من خلال التفاصيل والمشاعر والحدس والرؤية الموحية... بدهيّ أن تتفاعل الرواية مع التاريخ والفلسفة والعلم أيضاً، لكنها لا تكتسب وجودها إلا من خلال الرؤية إلى العالم التي تبلورها عبر مسالك وأصوات متباينة. على ضوء هذه الملاحظات السريعة، أرى أن المهمّ في «لها مراياها» ليس هو مرجعية الطائفة العلوية في سورية، وإنما ما أرادت سمر يزبك أن تصوغه كشكل ودلالة ورؤية إلى العالم . وهذا هو الجانب الذي يستحق، في نظري، أن يتوقف عنده نقد الرواية، لأنه المدخل الضروري إلى التقييم الذي يعرف هذه الأيام، أزمة مستفحلة بسبب تكاثُر النصوص الفاقدة للتشكيل الفني والعمق الدلالي . ومن هذا المدخل أيضاً يستطيع نقد الرواية أن يشيد قيماً وموازين تواكب مَنْ يكتبون ليجددوا ويضيفوا لبناتٍ إلى صرح الرواية العربية الباحثة عن قراءات تسند «فلسفتها» التي لا توجد في صلب النص الروائي بقدر ما توجد، كما لاحظ ناقد غربي، في ثنايا تحليلات وتعليقات النقاد.