كان الرئيس أوباما قد وجد ضالته لدعم فاتورة حملته الانتخابية والتي تمكن من خلالها من إعادة هيبة حزبه وأهميته وكان مبهراً في تصيد أخطاء سلفه بوش الصغير ومنها احتلاله العراق، وعلى مدى حملة سيد البيت الأبيض الانتخابية وجه سهامه إلى غريمه جون ماكين معلناً أنه فور فوزه بالرئاسة سيسحب قوات بلاده من العراق، وفعلاً صدق الرجل وعده، ففي 27 شباط (فبراير) 2009 أعلن أنه سيسحب القوات الأميركية بحلول آخر آب (أغسطس) 2010 وقد تم سحب بعض القوات تنفيذاً للاتفاق الأمني الذي تم التوصل إليه في نهاية عهد بوش! للذين يعتقدون في حسن نوايا المحتل، فإن تاريخ آب مهم جداً في أجندة الانتخابات الأميركية، فقد أثبت أوباما أنه رئيس ماهر، واستطاع بدهاء أن يحول مسألة العراق المغلوب على أمره من بعض قادته ومن المحتل، إلى ورقة رابحة لحزبه الذي سيخوض انتخابات الكونغرس النصفية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، ولذا فإن الانسحاب هو خدمة لانتخابات أميركية برلمانية قادمة، كما كان العراق زمن حملة بوش لفترته الرئاسية الثانية وكسب السباق فعلاً!! المهم أن الانسحاب - سواء كان صورياً أو حقيقياً - تم وسلمت المسؤولية الأمنية بخيرها وشرها إلى القوات العراقية التي أشرفت على تدريبها قوات الاحتلال لتصبح قوة لحفظ الأمن الداخلي (إذا قدر لها هذا) أما كونها قوات دفاع وردع لأي معتد فهذا فيه شك كبير، فبلاد الرافدين طحنتها قوات الاحتلال طحناً شديداً وغابت شمس مليون جندي عراقي يحمون الديار، فحلت محلها ديموقراطية مغروسة غصباً، بل وأصبح العراقيون من سنّة وشيعة وأكراد وتركمان وعرب، أمام خيارات أحلاها مر! صحيح أن المحتل سحب بعض قواته وألقى مسؤولية الأمن على حد قوله على عاتق القوات العراقية (الضعيفة) لكن الأكيد أنه لن يترك غنيمة النفط وموقع العراق الاستراتيجي بكل هذه السهولة، فقواعده العسكرية المحصنة ستبقى يدعمها نحو 50 ألف جندي أميركي لا يزالون يقبعون داخلها، وإذا كان خروج بعض القوات الأميركية قد جاء من الباب المفتوح، فإن العودة يمكن أن تكون من الشباك المفتوح أيضاً بعد أن تنجلي معركة الانتخابات النصفية، ولن تعدم الإدارة الأميركية السبب، فدهاليز السياسة الأميركية الخارجية تشمر سواعدها في أي وقت وأي زمن لإقناع شعبها والدول بأن ما تفعله هو الصواب وما على الآخرين سوى الإنصات والإجابة بنعم، ثم إن الغنيمة التي جاء من أجلها الأميركان ودمروا العراق من أجلها تدميراً غير مسبوق ما زالت في خزائن أرض العراق موفورة يسيل لها اللعاب وهي البترول، إذ كانت وزارته أول وزارة أطبقوا عليها فور سقوط بغداد المدوي. ويملك العراق احتياطياً نفطياً يقدر ب 115 بليون برميل، فهل يعقل أن يتركه الأميركيون هكذا من دون ضمانة في جيوبهم ؟ بالطبع لا. والدليل على ما نقول أن إعلان الانسحاب (الشجاع) يخدم أولاً غرض الرئيس الأميركي الانتخابي، فالرئيس اوباما يضع اهتمامات بلاده الداخلية فوق كل شأن آخر، خصوصاً إذا تعلق الأمر بوضع انتخابي يهم الرئيس أن يحظى حزبه بتصويت غالبية الشعب له. وفي الوقت نفسه جاء بعد أن حققت الإدارتان الأميركيتان - السابقة واللاحقة - أهدافهما النفطية، فالشركات البترولية الأميركية فازت باتفاقات النفط العراقية (الدسمة) ووقعت تلك الاتفاقات تحت مظلة الاحتلال وغياب قانون النفط. وثالثة الأثافي أن الانسحاب بكل معطياته ومنحنياته وحساباته المعقدة لن يترك العراق حراً طليقاً، فالإدارة الأميركية ليست بهذا الغباء وليس الأمر كما يظهره تطبيل وسائل الإعلام لهذا الانسحاب، فالأمور ليست بهذه البساطة، فهناك - على ذمة بعض المصادر - نحو 150 ألفاً من القوات الخاصة كشركات أمنية، وهذه الشركات هي لحماية المصالح الأميركية وخرجت من رحم الاحتلال وتضرب بيد من حديد وهي فوق القانون العراقي. وعلى الجانب الآخر، فإن العراق معرض للأطماع الإيرانية بل واحتلال إيران التي سارعت بالترحيب بالانسحاب بعد أن مهد بوش الصغير الطريق لها وأكمله أوباما، وقد تم تدخل إيران في العراق من أول يوم سقطت فيه عاصمة الرشيد وهذا لا ينكره إلا الأعشى، وقادة العراق وفي مقدمهم بالطبع المالكي وعلاوي وهم يودعون أحبابهم الأميركان سيستقبلون أشقاءهم من إيران. إذاً الإدارة الأميركية بذكاء غير مسبوق تنازلت لإيران عن العراق، ليحل احتلال آخر محل احتلال أجنبي قرر أن يحتفظ بقواعده العسكرية المحصنة في طول البلاد وعرضها، بينما المحتل الثاني يدير البلاد بنفوذه، وهذه هي لعبة (المصالح) بين الدول التي تسندها العلاقات الدولية والقانون الدولي الذي قاعدتاه (المصلحة) و(القوة). كل هذه الاستحقاقات وغيرها تأتي في ظل تنازع على السلطة وصراع بين الطوائف وهو ما يجعل السنّة يشعرون أن الانسحاب الأميركي سيجعل الشيعة يطبقون على السلطة وأن إيران ستكون هي يدهم العليا التي يحكمون بها ذلك الإطباق، وهكذا فإن الأوضاع الداخلية في العراق تغلفها سحب كثيفة وكئيبة، فالمحتل الذي ودع - صورياً - لا تزال قواعده العسكرية منتشرة في كل مدينة ومحافظة في العراق، وما تم سحبه من القوات قد يعود من (الشباك) والمواقف كلها أوراقها تختلط، فالتنازع الداخلي وتخوين كل طرف للآخر قد يجلب معه عودة المحتل، والاحتلال الإيراني المنتظر الذي صبر كثيراً لموعد خروج القوات الأميركية سيكون أطول عمراً من الاحتلال الأميركي، وقد تخرج من رحمه تصفية حسابات قديمة بين الإيرانيين وبعض العراقيين، خصوصاً حزب البعث، وهذا سيزيد البلاد خراباً ودماراً ويسلمها إلى شر مستطير، ومستقبل كالح لا يعلم مداه إلا الله. وفي هذه المعمعة التي اختلط فيها الحابل بالنابل سيمتد الدمار إلى قطاع النفط، ثروة العراق وأهله التي أصابها النهب والسلب والفساد من كل جانب، فذهبت الثروة النفطية إلى المحتل وأعوانه وأصبحت نقمة على أصحابها الحقيقيين بدلاً من أن تكون نعمة. وعلى رغم هذا المنظر الكئيب والتشاؤم الجاثم على الصدور، فإن توقعات وزارة البترول العراقية تقول إن الاتفاقات مع الشركات البترولية الأجنبية لتطوير الحقول سترفع إنتاج العراق الحالي (2,5 مليون برميل يومياً) إلى نحو 12 مليون برميل يومياً في العام 2017 وإذا تحقق هذا الحلم الجميل وهو محل شك كبير، فإن الإيرادات من النفط اليوم وهي بحدود 70 بليون دولار سنوياً ستبلغ الثريا إذا تحقق ما تحلم به تلك الوزارة وهو بعيد المنال في ظل ما يعيشه ذلك البلد العربي من احتلال وفقدان للأمن وتنازع على السلطة وصراعات بين أطيافه قد تخرج من رحمها حرب أهلية تقضي على الأخضر واليابس. وهكذا يبدو للمتمعن أن أهل العراق، الذين وقعوا بين مطرقة الاحتلال الأجنبي وسندان بعض قادته المطبقين على السلطة، قد بنوا الجسور تلو الجسور لعبور محتل جديد (إيران) إلى جانب المحتل الأميركي الذي ذاق طعم كعكة النفط ولن يغادره مكان عبقها الأخاذ كلياً وإن كان ضمن لشركات بلاده الجزء الأكبر من الكعكة وترك للآخرين الفتات، ذلك أن ما يهمه هو ضمان أمن العاملين في الحقول والمنشآت النفطية وهم بالآلاف من أبناء العراق وغيرهم من الدول الأجنبية. إن الصورة المستقبلية لأهل العراق وسيادة البلد وأمنه واستقراره تبدو كالحة، فهو كان وعلى مدى سبع سنوات يرزح تحت نير الاحتلال، وما أن بدأ يتنفس الصعداء من زوال ذلك الاحتلال حتى بدا في الأفق دخول محتل ثان، كما أن الأجواء تقول إن أعاصير داخلية قد تهب على العراق يشعل هبوبها نيراناً وقودها أهله من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه. ولم نقصد أن نبث اليأس في القلوب، ولكن الوضع في العراق يدعو للتشاؤم، حتى إن الائتلافين الشيعيين فشلا في تحديد آلية لاختيار رئيس الوزراء المقبل، وقد اعتبر علاوي استبعاد القائمة العراقية بزعامته عن رئاسة الحكومة المقبلة انقلاباً على الديموقراطية والدستور. * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية [email protected]