ما إن تبدأ شمس الغروب في التواري خلف البحر، حتى يبدأ أهالي جدة في الركض وراءها والهجرة خلفها، بيد أن البحر (الذي تسترت خلفه) سيمنعهم مصاحبتها ويظلون هناك متوقفين إلى حين عودتها صبيحة اليوم التالي. وعلى هدير أمواج المياه ونسيم الشاطئ يجد أهل جدة في الكورنيش فرصة للتخلص من هموم يوم من المعاناة ولو لحين، إذ إن البحر يخلص جميع رواده من هم الرطوبة (المشترك) التي تكتنف جدة على الدوام، لذا فإن غالبية السكان والمقيمين يحرصون ولو في فترات متباعدة على حمل زادهم في رمضان والتوجه به إلى منطقة الكورنيش بغية تناول الإفطار هنالك حيث الهدوء والاسترخاء والاستجمام. الناظر إلى حال الناس قبيل «صدح مؤذن المغيب» بإعلان وقت الإفطار، يرى غالبية الأطفال منشغلين باللعب، فيما اختار قلة منهم مجاورة سفرة الطعام انتظاراً للإفطار بعد اللعب والتعب الذي لحق بهم. وفي مشهد آخر، تلمح بعض الكبار منهم قد اتجه نحو البحر يتمتم بدعاء إلى الله، وهناك من جسد مع أطفاله وأسرته أروع لحظات التقارب بينهم. هذه المشاهد وغيرها، تابعت «الحياة» تفاصيلها من داخل شاطئ الكورنيش الذي وجدنا فيه مسناً لم يقو على الوقوف، جلس العم أحمد محمد على كرسيه، رامياً «سنارته» في البحر، وقال: «تعلمت من الصيد الصبر على هموم الدنيا، ومواجهة تحدياتها، وأمارسه من حين إلى آخر كي لا أفقد لياقتي في مواجهة مصاعب الدنيا». وتابع أبو محمد: «أجد للبحر معنى آخر، معنى الحرية من قيود المساكن التي لا تمنح لساكنيها أي معنى للجمال والتحرر في الفضاء الواسع». أما حسام فيختار وأصدقاؤه يوماً من كل أسبوع يفطرون فيه على كورنيش جدة، ويبرر بأن «الجلوس بجوار البحر يمنح جالسيه الراحة ما يوفر أجواء مميزة للفضفضة بصراحة ومن دون تحفظ في ما بين الأصدقاء». ووسط كل تلك المشاهد المعبرة يلفت نظرك منظر سيدة مسنة تبيع ألعاب الأطفال على بسطة أرضية جوارها طفلها الذي يلهو هو الآخر في براءة الطفولة من دون إدراك لمجريات الأمور، بينما تنشغل والدته في إخراج الطعام من تلك الحافظة الصغيرة استعداداً لتلك البرهة التي يرفع فيها الأذان. وعلى ضفاف الشاطئ تجد خالداً متمدداً على «بساطة» موجهاً ناظريه نحو السماء وبجواره قارورة ماء وحبات من التمر، يقول: «بعد 30 عاماً مضت من عمره، لم يعد يفكر سوى في الديون التي أرهقت كاهله وجعلت الشيب يغطي جزءاً من رأسه، جراء تفكيره الدائم في كيفية سدادها»، ويرجع هذه الديون إلى «الكشخة» التي يؤكد أنها اكتسحت السعوديين في كل شيء «فزواجي كلفني ما يفوق ال200 ألف، والسبب الانسياق خلف المجتمع، وقد زدت الطين بلة واستدنت من البنوك لشراء سيارة جديدة على رغم أن مرتبي لا يتجاوز 4000ريال»، ويرى في البحر الذي أفطر عدداً من أيام رمضان بجواره الملاذ الأخير لراحته من هموم ديونه ولو لبرهة من الزمن.