(الى عباس بيضون) لم اكتب له وهو في غيبوبته في المستشفى البيروتي إثر صدمه من قبل سيارة مسرعة بينما كان يعبر جسر الرينغ في بيروت، لم اكتب للشاعر اللبناني المعروف خشية الوقوع في إنشاء لا يسمن ولا يشفي من وجع في هذه الحالة، وتجنباً لشبهة مجاملة في غير مكانها وزمانها، إذ أنني على نقيض معظم من كتبوا لا تربطني بالرجل صداقةٌ يومية، لكنني مثل كل هؤلاء تألمت جداً حين جاءني الخبر بل تأذيت لأنه مثل كل خبر مماثل يبعث على الحزن والأسى حين لا أمن ولا أمان، لا لشاعر ولا لسواه في وطن الشهداء والشعراء. لكن مبعث الأسى الشخصي هو ان عباس بيضون جزء من ذاكرة إبداعية خصبة ومن شجرة شعرية خضراء وارفة تتفتح قصائده عليها مثل براعم ندية مزهرة مرّة «بلدية» ومرّات إكزوتيكية مشتهاة، تحفل بما هو مختلف وغير متوقّع. فعباس يجيد الانقلاب على شعره والتملّص من تجاربه واجتراح الجديد حتى تكاد سيرته الشعرية تكون سلسلة من المناكفات والمشاكسات والانقلابات والأسئلة المطروحة على الذات أولاً وعلى قصيدة صاحبها قبل سواه، وهذه شجاعة يستحقها على رغم قوله قبل أيام في «السفير» «لم أكن في يوم بطلاً (...) ولا أعرف أني صارعت في يوم». لكننا نعرف أنك فعلت يا عباس. صارعت الجروح والكسور والوحش الميكانيكي بجأش جنوبي ورهافة شاعر. وما غيبوبتك سوى عودة عاجلة الى أصفى البرك والأودية لتروي سيرتك كما يليق برجل شجاع لم تحن نهايته بعد. عباس بيضون إبن ذاكرة جميلة حتى لو أصيب أحياناً بغيبوبات لا علاقة لها بحوادث الصدم السيارة أو بما يشبه ذاكرةً مثقوبة. فما يتجاوزه (هو) شعرياً أو يلفظه نقدياً ويرميه جانباً ليس أقل قيمةً أو ابداعاً، وفي مساره الشعري يشبه بيضون مركبةً فضائيةً كلما حلقت اعلى كلما تخففت من بعض حمولتها واجزائها لتصير أكثر سرعةً وأقل وزناً لكن الحمولة الشعرية التي تلقى جانباً ليست بالضرورة أدنى أو أقل من سواها، وهكذا نجد في «ماضي» عباس الشعري ما لا يقلّ أبداً عن حاضره من دون التقليل من قيمة هذا الحاضر وتجريبيته وحقّ شاعره فيه، علماً أن الذاكرة الابداعية لا تعود ملكاً لصاحبها بل تمسي «مشاعاً» من حقّ كل قارئ أو متلقٍ أن يختار منها ما يشاء وما يلائم مزاجه وذائقته وهواه. فالقصيدة الجميلة تظل جميلة حتى لو نكرها والدها الشعري، إذ أن جمالها يوفرّ لها آباءً كثيرين وعشّاقاً أكثر، ولعل هواي أكثر ميلاً الى تلك الذاكرة البيضونية المفعمة بالحماسة والنضارة وشغف البدايات وطزاجة السليقة وقلّة المراس. آه منك يا عباس، كيف يشفى منك من قرأك في «صور» و «الوقت بجرعات كبيرة» و «حجرات» و «نقد الألم» و «ب.ب.ب» وسواها مما يتسبب بإصابات لا شفاء منها. لحسن الحظ أنك تعافيت وأنك كتبت ما كتبت قبل المحنة وما سوف تكتب بعدها ولئن استطعت «سرقة» أصدقائك ثانيةً فحسناً تفعل إذ يحرّضك الحب على العودة كاتباً كما تقول. آه كم تغيرنا الشدائد، محمود درويش بعد القلب المفتوح صار سواه قبله، بول شاوول امسى أكثر خفراً وحناناً وأقل نزقاً وتهوراً، عبدو وازن تغيّر وتبدّل، وها هو عباس يعلن بشجاعة انضمامه الى القافلة كأنه كُتب علينا دائماً اختبار قسوة الحياة وزجاجيتها وهشاشتها لنسترّد ما تسرقه منّا قساوات الأيام والعلاقات والمدن والمنابر ولنكتشف أن الحياة أوسع من قصيدة وأجمل من كتاب وأن الصداقة أكثر شعرية من النص، وأن القلب المفتوح للحب والحرة والرعشات هو القصيدة الأجمل. حين كنت قارئأ كنت أجمل. أقرّ بذلك، علاقتي بالشعر والشعراء كانت أجمل وأنبل. حين كتبت شعراً غدوت واحداً منهم بكل ما في «منهم» من سلب وإيجاب ومن شدائد ومحَن ومن أفراح وأتراح. ليتنا نظلّ قراء بعضنا بعضاً، لا شعراء ولا أنداداً ولا منافسين. القارئ أكثر جمالاً وصفاءً وبراءةً من الكاتب، الكتابة مراوغة الحياة ومكر اللغة ودهاء المجاز. لذا أود المشاركة بفرحة شفاء عباس بيضون وعودته الى الحياة والشعر والصداقة بوصفي قارئاً فحسب لشعره ونثره وأدبه الذي يشكّل علامة من علامات المدينة الفارقة على رغم كلّ ما يعتريها ويعترينا من شحوب وغياب أحياناً، ولعلي في ذلك أقلّ مجاملة وأكثر نزاهة، ولا غاية لي من فرحتي بسلامة عباس وعودته كاتباً سوى متعتي بما سوف يكتب غداً...