يقف ناصر خلفان (30 سنة) وسط حشد من المارة يبيع أنواعاً من المكسرات. وضع كل كيلوغرام منها في كيس صغير وراح يحاول إقناع المتحلقين حوله بالشراء. وخلال ساعات تنفد عشرات الأكياس من كل نوع ليعود إلى منزله ويحصد أرباحه من مشوار صباحي امتد حتى ساعات الظهيرة. وناصر ليس تاجراً حقيقياً، بل شاب يجد فرصته في أسواق موسمية تسبق عيدي الفطر والأضحى وتسمى في عمان الحلقة أو الهبطة. والاسم الأول مأخوذ من حلقات الناس حول البائعين، والثاني من هبوط الأخيرين إلى الاسواق في الصباح الباكر حيث يتجمع البشر بالآلاف ويمكن سماع الجلبة من مسافة بعيدة. وتعرض هذه الأسواق التي تتنقل كل يوم من قرية إلى جارتها، مستلزمات العيد كألعاب الأطفال والحلويات وصولاً إلى الثيران الضخمة التي تعرض بالعشرات تحت ظلال النخيل في الأماكن المعهودة منذ القدم. وتختلط أصوات الناس مع أصوات الحيوانات في مشهد أشبه باحتفالية تسويقية سنوية يقصدها آلاف العمانيين وتعيشها قرى لا تعرف في بقية أيام السنة سوى الهدوء والسكينة. وتشكل هذه الأسواق الموسمية فرصاً ذهبية أمام الشباب لاستعراض قدراتهم في التجارة اذ يقومون بشراء سلع يدركون بالفطرة أنها من النوع الذي يقبل عليه المستهلكون. فألعاب الأطفال مثلاً تشد كثيراً الصغار المتوافدين مع أهاليهم في فترة العيد وكذلك المكسرات المستخدمة في صنع حلويات العيد. ويقوم في كثير من الأحيان أطفال بمساعدة أخيهم الشاب أو والدهم في عملية البيع، ويتحول قطاع كبير من الشباب إلى تجار موسميين يتنقلون بين طرفي السوق، منهم من يمارس «الدلالة» في الجزء المخصص للأبقار وبقية المواشي، ومنهم من يتحول بائعاً يفرش أمامه قماشة واسعة يعرض عليها بضاعته وعلى يمنيه ويساره المستوعبات الكرتونية الأشبه بمخازن صغيرة تموّن نواقص البضائع. وغالبية تلك السلع مصدرها الصين والهند وميزتها رخص ثمنها، لذا فإن معظم الألعاب لا يكمل اليوم بين أيدي الأطفال الذين ينفقون مصروف الحلقة سريعاً، ويمضون بقية الوقت في الفرجة أو البكاء إلحاحاً على آبائهم لشراء لعب أخرى. ويتحيّن ناصر خلفان فرصة العيد بالاستعداد المسبق فيسافر أحياناً إلى دبي لشراء المكسرات بكميات تترك له هامش ربح جيد. ويتولى ناصر تعبئة الكميات ووزنها بنفسه في ليالي هذا السوق الموسمي ولا يكاد ينتهي من قرية حتى يتوجه في اليوم التالي إلى قرية مجاورة لمزاحمة شباب آخرين يعيشون بدورهم هاجس تحيّن الفرصة. حلقة التجارة تتسع لكثير من الشباب العماني إلا أن هناك فرصة أخرى للربح لكنها تحتاج إلى مغامرة لكونها تتطلب النزول إلى حفرة عميقة أشبه بالبئر حيث الحرارة مرتفعة جداً. فعيد الفطر في معظم ولايات عمان يشبه عيد الأضحى اذ يقوم السكان بذبح الأضاحي التي تقسم لحومها إلى أنواع عدة ويؤخذ جزء منها للشواء وهو الأشهر في السلطنة لكونه يستلزم وضع قطع اللحم بين أوراق الموز بعد تتبيلها بالبهارات ثم تلف بكيس من الخيش الذي يخاط بسعفات النخيل الخضر الصغيرة ما يكسبه مذاقاً رائعاً. وتلقى هذه التوليفة في الحفرة بعد إشعال النار فيها ساعات ريثما يتحول الحطب الضخم إلى فحم يملأ قاع الحفرة (التنور) وتشتد سخونة جدرانها المبنية من الصخر. ويعمل الشباب على تجهيز لحم الشواء بخبرات نقلوها عن آبائهم ويحملونها بعد صلاة المغرب إلى موقع التنور (ولكل حارة تنورها) ويلقون ببضاعتهم (وتسمى الخصفة) إلى قاع التنور حتى يمتلأ ويتم إحكام إغلاقه جيداً لمدة يوم أو يومين. ويقوم الشباب قبل تلك العملية بتنظيف التنور من تراكمات فصلت بين آخر عيد والعيد الحالي ويأتي دورهم الأخطر بإخراج ما في التنور على رغم الحرارة الشديدة. يربط أحدهم الكتلة في عمق التنور والآخر يسحبها من فوق، وسط دخان متبقٍّ وجمرات لا تزال مشتعلة، ويتناوبون على هذه العملية تفادياً للحرارة الشديدة خصوصاً في فصل الصيف. ويدفع السكان مبالغ رمزية لا يعتبرها الشباب مكسباً كبيراً إنما عيدية ومغامرة شواء منطلقها الحماسة والرغبة في إظهار شطارتهم وسط أقرانهم الذين ينتظرون قطع اللحم تخرج من عمق التنور بنوع من الترقب لمعرفة إن كان اللحم طهي بطريقة جيدة وتحديد إن كانت النار «زادت» عليه أو جاء «نيئاً» لوجوده بعيداً منها. وخلال ساعة يتفرق الجمع برواية قصص ما حدث في تلك اللحظات الحارقة، ومنهم من يتحسس يديه بعد تعرضها للهب التنور، ومنهم من يأسف على انفلات ربطته فأتت الحرارة الشديدة على تماسك «لحم العيد».