أثار رحيل آخر القوات المقاتلة الأميركية عن العراق موجة تعليقات واسعة في الولاياتالمتحدة. لكن يبدو أنّ معظمها حاد عن جوهر المشكلة. واستندت هذه التعليقات من جهة على الافتراض الأميركي القائل بأنّ الأمور كانت ستجري على نحو أحسن لو تمّ التخطيط في شكل أفضل أو لو توافرت معرفة محلية سليمة أو لو تمّ اعتماد استراتيجية عسكرية مختلفة. لكن، كما سبق وقلت مراراً، من شأن الاحتلال في الزمن الحديث مواجهة صعوبات جدّية مهما حسنت طريقة تنفيذه ومهما تمّت دراسته بتمعّن، ويجب بالتالي اللجوء إليه في أقصى الظروف. وعلينا أن نأمل أن تكون واشنطن قد أدركت جيّداً هذه العبرة وأن تأخذها في الاعتبار حين تبحث عن سبل للتحرك ضد ملاذات الإرهابيين الآمنة في اليمن والصومال وفي أي مكان آخر. أما الاعتقاد الخاطئ الثاني فيتعلق بطبيعة النظام الذي أدخله الأميركيون عن غير قصد إلى العراق والذي يعتبر شكلاً من أشكال الطائفية. ويمكن اليوم فهم سبب حصول ذلك. وعلى رغم أن الولاياتالمتحدة ودولاً أخرى أفصحت عن عدم رغبتها في تكرار تجربة لبنان في العراق، فقد أدى كل ما فعلته الى ضمان تحقيق هذه الغاية. فقد تمّ تشكيل حكومة انتقالية تألفت حصرياً من الزعماء الشيعة الذين كانوا منفيين خارج البلاد ومن الأكراد، إلى جانب الاعتماد على رجال الدين المحليين للمساعدة على إحكام السيطرة على الأمور إضافة إلى الحرص الكبير على إيجاد توازن طائفي نوعي في كافة المجالس والجمعيات الكبيرة والصغيرة. ساهمت هذه العناصر إلى جانب عوامل أخرى في الوصول إلى الوضع الحالي حيث لا تعتبر الحكومة الائتلافية المركزية الضعيفة الخيار الوحيد القابل للعيش فحسب، بل يستغرق تشكيلها عدداً كبيراً من الأشهر لا سيما أن النظام السياسي لم ينشئ بعد مجموعة من القواعد الشبيهة بتلك الموجودة في لبنان والتي تحدد كيفية توزيع المناصب العامة الأساسية. والأسوأ هو أنّ ذلك كله يحصل في بلد لا يستطيع أن يدّعي، على خلاف لبنان في العشرينات والثلاثينات، وجود توازن ديموغرافي بين الطوائف الثلاث حتى يتمّ بالتالي توزيع المناصب بالتساوي بينها. ونتيجة لذلك، يجدر بنا أن نسأل إلى أي مدى يجب لوم المنفيين السياسيين العراقيين السابقين الذين يشغل معظمهم اليوم مواقع في السلطة أو يطمحون إلى تبوئها على الأزمة السياسية القائمة حالياً؟ يقع اللوم الأساسي، أقله برأيي، على المحافظين الجدد وعلى كبار الأعضاء في إدارة بوش الذين اختاروا تصديق روايات هؤلاء المنفيين حول الأخطاء التي تشوب نظام صدام حسين وحول سهولة تصويبها. غير أنّ القراءة الدقيقة وغير الملائمة لتاريخ العراق السياسي قد خلّفت عواقب أساسية ومنها مثلاً المخاوف التي راودت المنفيين من إمكان حصول انقلاب عسكري بعد عام 2003 في حال لم يتمّ تفكيك الجيش فوراً وإعادة تشكيله، مع العلم أنّ البريطانيين لجأوا إلى اعتماد هذه الطريقة بعد أن تدخلوا عسكرياً ضد النظام الديكتاتوري المدعوم من جيش رشيد علي الكيلاني عام 1941. وكما كان الحال مع الحكومة الطائفية، يبدو أنه من المرجح أن تعود حالياً المخاوف التي راودتهم وحلفاءهم الأميركيين من قيام جيش مسيّس، لتلازمهم من جديد. ثمة من جهة أخرى مسألة إيرادات النفط. أولاً، تمّ خلال سنة الاحتلال الأولى بذل جهود حثيثة من أجل إيجاد طرق لتنويع الاقتصاد حتى يتقلّص اعتماده الكامل على هذا المصدر الوحيد للدخل الحكومي. إلا أنه تمّ تجاهل الزراعة وتمّ السماح للأفراد باستيراد كل ما يريدونه من الخارج، الأمر الذي ساهم في تقليص المساحة الخاصة بالصناعة المحلية في السوق. واليوم، يكتب بعض المعلقين أمثال أنطوني شديد في صحيفة «نيويورك تايمز» حول شكوك السياسيين المنفيين المتزايدة من بعضهم بعضاً، مع العلم أن أسباباً عدة تدعوهم إلى التصرف على هذا النحو لا سيما أن كلّ واحد منهم يحاول أن يضمن الحصول إلى جانب أتباعه على أكبر عدد ممكن من المناصب واعتماد المحسوبية مع العلم أن أموال النفط تكرّس ذلك. ويغيب على هذا الصعيد أيضاً وجه الشبه مع لبنان. فطبيعة النظام الطائفي في لبنان تستدعي قيام دولة ضعيفة بجيش ضعيف خشية أن يقع أيّ منهما في يد فريق من طائفة معينة يقوم باستخدامهما ضد مصلحة طائفة أخرى. لكن يجب أن يحظى العراق بجيش قوي لأسباب أمنية محلية. كما يبدو أنه سيحظى بدولة أقوى من الدولة في لبنان في حال بروز زعيم واحد يستخدم الإيرادات النفطية من أجل تعزيز سلطته الكبرى. وفي حال كان هذا التحليل صحيحاً، فقد أدى الاجتياح والاحتلال الأجنبي إلى بروز أسوأ الأوضاع السياسية على الإطلاق. لكن يجدر بي أن ألفت إلى أن أعضاء النخبة العراقية الحاليين ليسوا على علم بذلك حتى لو لم يكونوا على دراية بكيفية التصرف. والمنطق يقول بضرورة تشكيل حكومة ائتلافية عاجلاً أو آجلاً وبأنه في حال تردى الوضع الأمني مجدداً فسيمارس قائد الجيش ضغطاً أكبر على السياسيين من أجل تنظيم أنفسهم وقد يصبح وزيراً للدفاع وهو منصب تولاه عدد من القادة في بعض البلدان العربية الأخرى. قد تحدث أموراً أكثر سوءاً. فقد يكون القائد المعني رجلاً يتمتع بحكمة سياسية على غرار اللواء فؤاد شهاب الذي لم يجر بعد انتخابه رئيساً عام 1954 إصلاحات اقتصادية واجتماعية عدة فحسب بل رحل أيضاً عن منصبه في الوقت المناسب عام 1964 بموجب المادة الدستورية اللبنانية المتعلقة بعدم جواز انتخاب رئيس جمهورية لولاية ثانية. تحظى الدول العربية القوية والمركزية مثل مصر ولبنان وتونس برؤساء أقوياء. وينطبق ذلك على الدول التي يتمّ فيها توجيه الإيرادات النفطية نحو نخبة حاكمة صغيرة. وتحتاج الدول الأكثر ضعفاً والتي تملك شعباً غير متجانس مثل السودان واليمن إلى زعيم يعمل على طريقة رئيس مجلس إدارة فيكون كفؤاً في إدارة النزاعات ويعرف الثمن السياسي المطلوب لتسويتها. من يدري، قد يحظى العراق برجل مماثل بعد أن واجه مشاكل على مدى فترات طويلة. وقد يتمّ حينها تحقيق نتائج جيّدة. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد