تعقيباً على نصّي المُهدى اليها المنشور في هذه الزاوية الخميس المنصرم بعنوان «ليتني كنت مطرحك» كتبت (من الناصرة) الفنانة والمناضلة الفلسطينية ريم البنّا: «لم أكن أعرف أنها ستكون قصيدة. الله اعلم بما حدث في قلبي وعلا في رأسي، وانا أقرأها كان نبضي يتسارع، يتسابق مع الريح، والدم يهدر في جسدي كالنحل. للحظة وأنا أقرأها رأيتني خارجها، كأنك تكشف حياتي كلّها وتختصرني بقصيدة: هذه القصيدة. كأنك تعرفني منذ الأزل، كأنك سرت معي الى الحواجز وانتظرت في الطابور ساعات وساعات تحت أشعة الشمس الحارقة أو المطر الذي لا يرحم أحداً، ننتظر معاً أن يتغيّر مزاج جندي الاحتلال ويرحمنا لندخل رام الله أو جنين أو نابلس أو بيت لحم أو حتى الناصرة. وكأنك كنت معي في «المعصرة» ووقفنا معاً نغني مع آلاف الفلسطينيين وظهرنا مدارٌٌ لجنود جيش الاحتلال المدججين بالسلاح، وتحت فوهات وبنادق القناصة المتأهبين لإطلاق النار. أقف عاجزةً عن الكلام أمام هذه القصيدة المدهشة والمؤثرة حقاً والتي قرأتها على مراحل لأن دموعي لم تتوقف. بالنسبة لي هذه القصيدة هي الحياة، هي الجمال، هي الأمل، هي الحب والحرية، هي «فلسطيني أنا» التي أعشق، هي تعويذتي ودافعي الاكبر للحياة والمضي قدماً في طريق لا خيار آخر عنه ولا بديلَ: طريق المقاومة. القصيدة هذه حركّت في روحي ما كان راكداً منذ فترة، حفّزتني اكثر على الوقوف مجدداً في وجه الريح والظلم والقهر. لا أعرف حقّاً ماذا أكتب، يصعب أن أعبّر عن حقيقة ما نحّس لمن نحب، نعجز أن نعلّق على جمال فيه كلّ هذا الكمال كما في قصائدك عموماً. هل أقول شكراً ؟ كما قال درويش: لم أسمع عاشقين يقولان شكراً، لكن شكراً لأنك أنت من أنت (...) دمت لنا، فلسطين في انتظارك. ريم بنّا *** تشي رسالة ريم بنّا بما يعتمل في نفوس غالبية أبناء الجليل والمثلث والنقب أو ما يعرف بالاراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1948، من شوق وتوق ورغبة في التواصل مع أبناء وطنهم العربي الأكبر (تذكرون: وطني حبيبي، الوطن الأكبر) حيث يُضاعف الانقطاع والجفاء وطأة الاحتلال الاسرائيلي على أبناء فلسطين التاريخية ويؤازر مساعيه الحثيثة لطمس الهوية الوطنية وإلغائها نهائياً، ليس فقط من سجلات القيد والبطاقات الشخصية وجوازات السفر، بل من الذاكرة والوعي والوجدان وإلا بماذا نفسّر السعي الاسرائيلي المحموم للاستيلاء على كلّ ما يمت لتلك الهوية بصلة، إذ بعد «نجاحه» في احتلال الجغرافيا يسعى الكيان الغاصب الى احتلال التاريخ ايضاً. طبعاً لا يندرج كل أبناء ال48 في خانة واحدة وبينهم من اختار مسارات مؤسفة ومدانة وانتسب الى اكثر الاحزاب الصهيونية يمينية وتطرفاً، لكن الغالبية العظمى من هؤلاء تشبه ريم بنّا في تمسكها بهويتها وفي اعلانها العصيان والتمرّد بكل الاشكال التي تستطيع اليها سبيلا، ولا اظن أن ثمة خطراً أو تهديداً وجودياً ل «صفاء» الكيان العنصري الذي يطالب بنيامين نتنياهو بإعلان يهوديته الخالصة، يماثل الخطر الذي يشكله أولئك الذين اختاروا البقاء في أرضهم قابضين على انتمائهم وهويتهم كمن يقبض على الجمر، ويكفيهم أنهم أنجبوا أمثال راشد حسين، توفيق زيّاد، اميل حبيبي، محمود درويش، سميح القاسم، ميشيل خليفي، الإخوة جبران، كميليا جبران، ريم تلحمي، ريم بنّا (فضلاً عن آلاف المناضلين في الميادين الاخرى) وسواهم ممن ساهموا بابداعاتهم في حفظ شجرة الهوية الفلسطينية وبقائها خضراء يانعة على رغم كل الشحوب والاصفرار اللذين يعتريان «الوطن الاكبر». من جملة الاخطاء، حتى لا نقول الخطايا التي ارتكبها العرب في السلطات والمعارضات على السواء بحق أبناء فلسطين التاريخية مقاطعتهم ومحاسبتهم على جرم البقاء في أرضهم واضطرارهم لحمل «بطاقة» لا تمثّل أبداً حقيقة وجدانهم وانتمائهم وقناعاتهم ومبادئهم (وشتّان ما بين البطاقة والهوية) بينما المفترض حصول العكس تماماً أي مؤازرة أولئك الصامدين الصابرين المتمسكين بأرضهم وبوطنهم العربي الفلسطيني ودعمهم وتشجيعهم على المجاهرة بهويتهم الوطنية والقومية والتجذر في أرضهم وما تبقى من بيوتهم وقراهم ومدنهم في مواجهة مساعي الكيان الغاصب الهادفة الى تذويبهم او ترحيلهم وتهجيرهم بوسائل شتّى في سبيل تحقيق حلم الدولة (العنصرية) الصافية! طبعاً من الضروري جداً بل من الواجب التمييز بين من ظلّ على فلسطينيته وبين من تخلّى عنها وسار في ركب المحتل علماً أن الغالبية العظمى من أبناء فلسطين التاريخية تشبه ريم بنّا في صلابتها ونضالها وكفاحها اليومي بالشعر والموسيقى والغناء وبكل أشكال المواجهة المُتَاحة. لكي تظل فلسطين فلسطينية من البحر الى النهر. شكراً ريم، شكراً فلسطين.