سلسلة الهجمات الانتحارية الأخيرة التي استهدفت أفراداً في الصحوات ومراكز الشرطة العراقية ومراكز أخرى وأدت إلى حالة أشبه ب «الفوضى الأمنية»، هي بمثابة بلاغ شديد اللهجة بعودة قوية لقاعدة العراق. ذلك يطرح سؤالاً رئيساً في ترسيم سيناريوات المرحلة المقبلة، ويتمثل فيما إذا كانت هذه العمليات مجرد محاولات للقاعدة معزولة عن شروط استعادة النفوذ أم أنّها مقدّمات لعودة مطّردة للقاعدة خلال المرحلة المقبلة؟ استكشاف دلالة العمليات الأخيرة ومؤشراتها، يقتضي العودة قليلاً إلى وراء، وتحديداً إلى مرحلة بروز القاعدة ومن ثم تراجعها. فقد ولدت القاعدة تحت وطأة شعور المجتمع السني بالقلق والرعب في بدايات الاحتلال من صعود خطاب طائفي انتقامي، ومن تغير قواعد النظام السياسي، الذي مثّلوا هم خلال المرحلة السابقة رمزياً، أعمدته السياسية، ومن وجود احتلال لا يخفي نواياه المتحالفة مع الطرف الآخر، ما خلق الباب ليكون المجتمع السني بمثابة «الحاضنة الاجتماعية» للقاعدة. انهيار النظام السابق وحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية وتدشين عملية سياسية بدت ملامحها في غير مصلحة السنة، مع غياب المقاومة السنية ذات الطابع السياسي، التي تتحدّث باسم السنة، وبروز التقاء مصالح إقليمي بين إيران ودول عربية على عرقلة المشروع الأميركي في العراق، ما أدى إلى فوضى أمنية، كل ذلك وفّر، في حينه، أرضية مناسبة لولادة القاعدة وصعودها المطرد إلى مرحلة الإعلان عن قيام «إمارة العراق الإسلامية»، ومحاولة بسط النفوذ على المجتمع السني، في صيغة شبيهة بالحالة الطالبانية في أفغانستان سابقاً، وحركة الشباب المجاهدين في الصومال حالياً، وهو تكتيك تتبعة القاعدة في المناطق التي تعاني من فوضى سياسية وأمنية، وقد عكس ذلك بوضوح كتاب إدارة التوحش، لأبي بكر ناجي، وهو من أبرز الأدبيات لدى القاعدة في الفترة الأخيرة. إلاّ أنّ القاعدة عانت منذ منتصف عام 2007 من تراجع وانكماش وضربات أمنية شرسة أنهت فصولاً من صعودها المطّرد، ونفوذها الكبير، وانتهت إلى مقتل قياداتها الأخطر بدءاً من أبي مصعب الزرقاوي وصولاً إلى أبي أيوب المصري وأبي عمر البغدادي، وفي السياق جرى اعتقال أبرز قادتها الميدانيين. نقطة التحوّل في مسار القاعدة باتجاه التراجع والانحسار بدأت منذ أن دخلت في صدام مع القوى السنية المقاومة الأخرى، التي بدأت تعلن عن نفسها بوضوح وتمتلك أجندة سياسية وفكرية مغايرة للقاعدة، وهو ما انعكس أيضاً بصعود مزاج سياسي جديد داخل المجتمع السني لا يرى في القاعدة خياراً استراتيجياً أو مناسباً له، وجرت عملية تحول كاملة في تعريف مصادر التهديد والخطر من الاحتلال الأميركي إلى خطورة النفوذ الإيراني، ما نجم عنه تشكل الصحوات العشائرية نتاج إدراك سياسي جديد، لا إبداعاً أمنياً أميركياً، وهي التي شكّلت ضربةً قاتلة للقاعدة، كما اعترف سابقاً أميرها المقتول أبو عمر البغدادي. تحولات المجتمع السني واستداراته أفضت به إلى مشاركة نوعية جديدة وبنسبة مكثفة، وأكثر تركيزاً، ومحاولة للانخراط في مؤسسات الدولة لكسر شوكة النفوذ الإيراني وهيمنة القوى الشيعية عليها، وكانت الصدمة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، إذ استطاع السنة بالتحالف مع رئيس الوزراء السابق العلماني- الشيعي، إياد علاّوي الحصول على أكبر عدد من المقاعد، واجتياز قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي بدا للحظة تاريخية سابقة وكأنه «زعيم العراق الحديدي» الجديد. تأخر تشكّل الحكومة واختلاق الكيانات الأخرى للحيل المختلفة، وتعقيد عملية إجراء تحالفات التشكيل، إلى شهور طويلة، ولّد لدى السُنة مرة أخرى الشعور بأنّ مخرجات اللعبة السياسية لن تقبل لو كانت في مصلحتهم، وردّ الاعتبار لخطاب التيار الواسع المشكّك في العملية السياسية، وبضرورة الإبقاء على مقاطعتها. اليوم، ومع إتمام الأميركان سريعاً انسحابهم من العراق، بلا أي ضمانات سياسية حقيقية، ومع صعود الخطاب المتطرف الجديد في الأوساط السياسية الشيعية، والقيام بملاحقة الصحوات قضائياً وأمنياً، بذرائع واسعة وحجج عدة، ومع تعطّل العملية السياسية، وإعاقة إدماج السنة مرة أخرى في مؤسسات الدولة، كل ذلك بمثابة تخليق جديد لشروط إحياء القاعدة ومدّها بشريانات واسعة للحياة والنشاط والتجنيد. هنا، تحديداً، يكمن «تقاطع المصالح» بين القاعدة وإيران في تمديد مرحلة الفوضى السياسية واستعادة الفوضى الأمنية، والعودة إلى مربع «الفتنة الأهلية»، ونذر الحرب الداخلية المقلقة. مصلحة إيران، التي دخلت في طور جديد يوشك على الانفجار في أزمتها مع الولاياتالمتحدة على خلفية برنامجها النووي، أن يدور العراق في مربع «الفوضى المحدودة»، لتبقيه ورقة لنفوذها ولحسابات الصراع الإقليمي مع الولاياتالمتحدة. أمّا القاعدة، فإنّ الفوضى السياسية والأمنية، هي الحليف الاستراتيجي لقدرتها على التجنيد والتعبئة واستقطاب الأنصار والمؤيدين، ما يجعل من هذه اللحظة الراهنة فرصة للعمل والجهد الاستثنائي، إذ أنّها بمثابة المفتاح الذهبي للعودة. إذن، ثمة ترميم لشروط نجاح القاعدة سابقاً، وتتمثل داخلياً في خيبة الأمل لدى السنة من العملية السياسية، العودة إلى الخطاب الطائفي المعادي في داخل مؤسسات الدولة، خلق القيود والعقبات ضد اندماج السنة، ومن ثم مصلحة إيرانية حيوية في إبقاء العراق في مربع الفوضى، مع تسارع الانسحاب الأميركي. كل ذلك لا يعني بالضرورة عودة حتمية للقاعدة، لكنه يشي بأنّ هنالك من يدفع بهذا الاتجاه ويوفر المناخ المناسب له، فيما يبدو إلى الآن المجتمع السني متردداً في استعادة تلك العلاقة التي وصل في مرحلة لاحقة إلى أنّها لا تمثّل صمام أمان له، بقدر ما قد تساعد على إضعاف فرصه في بناء التوازن السياسي المطلوب، وكل ذلك مرهون بعملية تشكيل الحكومة وتحريك العملية السياسية. * كاتب أردني.