وحدهم متطوعو الدفاع المدني في لبنان نجحوا في إحراج الدولة أمس، بطرق مطلبية مبتكرة فأخرجوها عن تحفظها، وحصلت ولادة قانون تثبيتهم من خلال مباراة محصورة على وقع صرخات من البحر ب «أننا لن نخرج منه إلا إذا أقر القانون». على مدى ايام تمكن المتطوعون من فرض قضيتهم على الناس وعلى الشاشات المتلفزة، تارة ينزلون الى الشارع من دون إغلاق الطرق متنقلين جنوباً وبقاعاً وشمالاً وطوراً ينزلون الى شاطئ بحر بيروت مع عائلاتهم لمزيد من تسليط الضوء على «مطلبهم المحق». يعرفهم الناس في الملمات وهي كثيرة في بلد يموت فيه يومياً اكثر من 4 اشخاص كمعدل وسطي إما بسبب حادث سير وإما بسبب انفجار او حريق او جريمة قتل. تتعدد الاسباب والمنقذ واحد متطوع الدفاع المدني الى جانب المتطوع في الصليب الاحمر اللبناني. ويقول المتطوع حسن الداموري الذي أمضى 17 سنة في مركز الدفاع المدني في بيروت ويعاني من اصابات في وجهه وجسده انه امضى حياته ممزوجة برائحة الموت محطات الانقاذ فيها تمتد من الاحداث في بيروت الى مجازر قانا وصريفا وجويا وقلويه وصولاً الى انفجارات ضاحية بيروت الجنوبية. الداموري الذي جلس خلف موزع للصوت ثبت في مكان الاعتصام على شاطئ الرملة البيضاء تحت مظلة مصنوعة من القش، ينادي فلاناً من خلال مكبر للصوت ويحمس العناصر المتجمهرين من خلال نشيد للدفاع المدني او اغنية عن «الحق الذي لا يموت»، كان يائساً من امكان اقرار القانون لأنه «يفتقر الى التوازن الطائفي»، علماً، كما يقول، ان المتطوعين «ما ميزوا يوماً بين منطقة او اخرى. واذا كان المسيحيون اقل من المسلمين عدداً فهذا يعود الى البيئة التي نشأوا فيها، نحن آتون من طبقات مسحوقة بالفقر، وتطوعنا هو اندفاع انساني لمساعدة الآخرين وكلنا نخدم يومين مقابل 4 ايام خارج الخدمة. ونعمل في مهن اخرى، بعضنا سائق تاكسي وآخر موزع للخبز او في المطاعم وانا شخصياً اعمل في تصليح الادوات الالكترونية وثمة شبان كثر تطوعوا ولا يزالون على مقاعد الدراسة في الجامعات». كثيرة هي الاصابات التي تعرض لها المتطوعون، يذكر الداموري ان رفاقاً له قضوا بالقصف الاسرائيلي في حرب «عناقيد الغضب» باستهداف سيارة اسعاف. وأكثر الذكريات ايلاماً حين رفع متطوع طفلة مقطوعة الرأس في مجزرة قانا وقلت له في حينه اترك الالعاب جانباً وانقذ البشر فبكى وقال لي هذه ليست لعبة». محمد (20 سنة) لم يمضِ على انخراطه في الدفاع المدني اكثر من 3 سنوات. كان اشترى بزته الكحلية التي تحمل شارة الدفاع المدني على حسابه الخاص وكلفتها مئة الف ليرة فيما بلغت كلفة الحذاء (البوط) 50 الف ليرة. يقول: «اثناء الخدمة التي تمتد ليومين متواصلين نجمع المال من بعضنا بعضاً لشراء الغداء او العشاء، وإذا أصيب واحد منا اثناء قيامه بعمله يطبب على حسابه الخاص الى ان قررت وزارة الصحة اخيراً وخجلاً ان يدخل المصاب منا على نفقتها». على شاطئ الرملة البيضاء توزع مئات المتطوعين الذين تركوا مراكزهم في النبطية والهرمل وطرابلس وجونيه وجاؤوا لإسماع صوتهم وانتظار دورهم في النزول الى البحر بعد رفاقهم القدوة وأبرزهم يوسف الملاح الذي ينظر اليه الجميع على انه «البطل»، والذي كان اول من اقترح النزول الى البحر والبقاء فيه حتى إقرار القانون. ودّع رفاقه بالدموع ونزل من دون ان يلتفت الى شقيقاته اللواتي جلسن قبالة البحر ينتظرون مصير اخيهم الوحيد الذي بدا انه نذر نفسه لمهمة التطوع. فيوسف غير متأهل، يمضي حياته في مركز الدفاع المدني في محلة الكولا في الطريق الجديدة. يتيم الأم منذ كان طفلاً، يعيش من إرث تركه له والده، ويربي طفلاً يتيماً بدوره وله ابنة اخت تعمل معه في الدفاع المدني - الانقاذ البحري. قالت فاطمة الناطور وهي تنظر الى البحر متأهبة أن خالها هو من زرع فيها العشق لانقاذ الناس، «وهو الآن في المياه وأصدقه حين يقول انه لن يصعد منها الى أن يقر القانون». يصدح نشيد «نيالك يا وطني بجيش الدفاع المدني»، ويقول زميل للملاح: «ياما وصل الملاح الى شفير الموت وكنا ننقذه منه. على الدولة ان تعرف كم بيننا من متحمسين، لا نريد كلنا التثبيت لكن انصفوا من يستحق، لماذا تريد الدولة إذلالنا؟ التثبيت يوفر لنا الضمان الصحي اما المدخول البسيط الذي يترتب على التثبيت فلا قيمة له». ويشير متطوع آخر الى ان مطلب المتطوعين مزمن (1700 متطوع وهناك 600 متعاقد و17 في الملاك) منذ زمن رئيس الحكومة رفيق الحريري، حمل الوزير بشارة مرهج قضيتنا لكنه حورب، وحملها الوزير زياد بارود ثم قال لنا ببساطة انا اوقع على المشروع لكن غيري لن يفعل لأنه يفتقر الى التكافؤ الطائفي. اعتصمنا ولاحقتنا الاجهزة الامنية وقالوا عنا «شقفة متطوعين»، الكل تجاهلنا ونحن لسنا طائفيين». مضى على الدفعات التي توالت على النزول الى البحر والبقاء فيه مع مواكبة من مراكب الدفاع المدني اكثر من ساعتين واختفت رؤوس السابحين بين امواج البحر. وجلست رندة عبدالحق والدة المتطوع محمد يوسف كلش (18 سنة) تنتظر عودته. كان ابنها تطوع في الدفاع المدني قبل 3 سنوات وهو يدرس في معهد الصيداني للمحاسبة. قالت رندة وهي تنفث دخان نارجيلتها ان الكل يذكر ابنها «كان من المتطوعين الذين علقوا في نفق المطار - خلدة يوم العاصفة الثلجية التي هبت على لبنان قبل اشهر قليلة، رأيته كما باقي الناس على شاشة التلفزيون فعرفت مكانه، وحين عاد حكى لي مزهواً كيف انقذ الناس». كانت ترد الى المعتصمين تحت شمس ربيعية حارقة تلطف حرارتها نسمات باردة، رسائل نصية على الهواتف الخليوية عن تأخر وزير الداخلية نهاد المشنوق في الوصول الى الجلسة التشريعية وبالتالي التأخر في مناقشة الاقتراح ثم اعتراض الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة على الاقتراح، لكن المتطوعين بقوا في اماكنهم ينتظرون، رفعوا اعلاماً لبنانية ولافتات مطلبية. وزارهم رئيس الاتحاد العمالي العام غسان غصن ووعدهم بأن مطلبهم سيتحقق. وقال إن الأمر ليس مجرد دعم معنوي وانما معلومات. وبعد مرور أكثر من ثلاث ساعات علا تصفيقهم، إذ أقر اقتراح القانون ووصل الى هواتفهم وعبر مراسلي محطات التلفزة. صفقوا وهنأوا بعضهم بعضاً وزغردت النسوة وعقدوا حلقات الدبكة وأطلقوا المفرقعات في الهواء وانتظروا عودة بطلهم الملاح، بعدما كان اصيب ثلاثة من المتطوعين الذين رافقوه بالإعياء ونقلوا الى المستشفى وبقي اكثر من عشرة برفقته. وكانت مجموعة منهم انضمت الى سيل الاعتصامات في ساحة رياض الصلح وهناك احتفلوا ايضاً وقالوا شكراً لرئيس المجلس نبيه بري. عاد الملاح ورفاقه وهتفوا له «الله معك يا ملاح» و «بالروح والدم نفديك». في اللحظات السابقة لإقرار الاقتراح ووسط حال من اليأس سادت الجموع، ارتفع عبر مكبر الصوت منادٍ ينادي الشباب الى حاجة مريض للدم من فئة «أ» ايجابي فهرع العشرات منهم الى المنادي يقولون «نحن من نفس الفئة اين نذهب لنتبرع».