ليس طبيعيّاً، ولا صحّيّاً بالتأكيد، أن يعيش شعب على إيقاع خطابيّ. أن ينظّم حياته ويغيّر برامجه ويقرّر أن يعيش، وكيف يعيش، وأين يعلّم أبناءه، تبعاً لخطبة تُلقى عليه. في هذه الحال يغدو الاستماع إلى الخطبة وظيفة لا يملك أحد إلاّ أن يمارسها، لأن أحداً لا يملك كماليّات الجهل بغده وعدم الاكتراث بيومه التالي. بهذا يتحوّل الشعب إلى ما يشبه الصفّ المدرسيّ: يعرف متى تحين فرصته للخروج إلى الساحة على ضوء انتهاء الدرس، ويعرف متى فرصة الغداء ومتى فرصة العودة إلى البيت على ضوء توقّف المعلّم عن الشرح. قد تكون الخطبة مهمّة جدّاً ومصيريّة جدّاً، وهذه، بالضبط، هي المشكلة. ذاك أن بلوغ هذه الحال إشارة بليغة على تردّ وطنيّ شامل: إشارة على أنّ الشعب المعنيّ بالأمر يترجّح بين تعبئة وتعبئة، وبين توتّر وتوتّر، وبين استعداد للهيجان واستعداد مماثل آخر. إشارة إلى أنّ الزمن نفسه صار يحرز معناه وقيمته انطلاقاً من الخطب التي تملأه وتقطّعه على مراحل. إشارة إلى أن وسائل المعرفة الأخرى، الهادئة والعاديّة والاختياريّة، قد نضبت، أو أنّها في سبيلها إلى النضوب. هذا ما قد يحصل في الحروب حيث التعبئة المتواصلة مطلوبة. وفي الحروب لا بدّ من الاستماع إلى خطبة العارف لأنّ الاستماع من شروط تجنّب الموت. لكنّه يحصل خصوصاً في ظلّ النظم التوتاليتاريّة، حيث تتقرّر الحياة، العامّة كما الخاصّة، على إيقاع خطبة يوجّهها الزعيم إلى «الشعب» وإلى «الجماهير». وفي حال كهذه، يكون من العبث البحث عن المعاني والدلالات من طريق التفكير أو العقل أو إعمال النقد. هذه المَلَكات لا مكان لها في عالم الخطابة. ذاك أنّ الشروط الشعوريّة الملتهبة هي التي تملك، والحال هذه، اليد التقريريّة العليا، فيما النقد يغدو مشبوهاَ أو، في أحسن أحواله، أسير الارتجاج الذهنيّ العامّ الذي يُضعف تأهيله كي يكون نقداً. ولبنان لم يكن إلاّ في ما ندر بلداً للخطابة، وهذا لأنّه كان ديموقراطيّاً ولو في حدود نسبيّة نجمت عن مدى اتّساعه للديموقراطيّة ومدى اتّساع الديموقراطيّة له. الخطيب، في هذا البلد، كان خطيب جماعة بعينها، أو مناسبة فولكلوريّة بذاتها. وكان هناك خطباء إنشائيّون كثيرون لعيد الاستقلال وعيد المعلّم وعيد الشجرة وسوى ذلك. لكنّ خطابة الخطيب لم تكن تفيض عن جماعته أو عن المناسبة المحدّدة التي تتناولها الخطابة. لم تكن مرّة تختصر الشأن العامّ، كما أنّها لم تكن، على الإطلاق، لتنعكس على الحياة الخاصّة. الخطبة، اليوم، تعبير زاهٍ عن الميل الجارف إلى دمج مستويات الحياة كلّها في مستوى واحد: أي الميل إلى أن يصير العامّ خاصّاً، والخاصّ عامّاً. وهذا ما يقلق كلّ من يريد لهذا البلد الصغير أن يكون ديموقراطيّاً، وأن يكون أفراده أحراراً: أي أن يكون خاصُّهُ غير عامّه، وأن يتّسع العامّ فيه لتعدّد النظر واختلاف الرأي. إنّ الخطبة والعيش على إيقاع الخطب يجعلان هذا اللبنان حلماً بعيداً.