الفورة التي شهدتها السنوات الأخيرة في توجه عدد من الجامعات الغربية إلى منطقة الخليج وافتتاح فروع لها هناك تدفع إلى تأمل متواصل في كشف حساب الإيجابيات والسلبيات. في جانب إيجابيات استقطاب الجامعات الغربية إلى المنطقة عدداً من النقاط المهمة، ينطلق معظمها من فكرة تبيئة مراكز إنتاج العلوم وليس استيراد المنتج العلمي وحده. فعوض إرسال الطلبة العرب إلى الغرب للتعلم والحصول على الشهادات العلمية، فإن الجامعات نفسها التي تمنح تلك الشهادات يتم استقطابها. وفي هذه الحالة، فإن العملية الأكاديمية لا تتوقف عند مسار خطي ومحدد بالحصول على الدرجات العلمية، بل من المُفترض أن يتحول وجود فرع للجامعة الغربية المانحة في البلد العربي المعني إلى مصدر إنتاج أكاديمي وبحثي. وهو أمر ما زال يحتاج إلى إثبات بسبب قصر العمر الزمني لهذه التجربة. تُضاف إلى ذلك أسباب أخرى يتعلق بعضها بتوفير فرص تعليم عال للإناث اللواتي لا يقبل أهلهن إرسالهن الى الخارج لاستكمال الدراسة. وبعضها الآخر يستخدم مسوغ الإنفاق المالي الذي يستنزفه الطلبة المبتعثون إلى الخارج، وهو إنفاق يمكن توفير جزء منه عبر استقدام الجامعات الغربية واستضافة فروعها في المنطقة العربية. بيد أن مسوغ التوفير المالي لا يصمد أمام حقيقة أن معظم فروع الجامعات الغربية في الخليج لم يتعد أعداد الطلبة المُستوعبين فيها آلافاً عدة في أقصى حد، وهي أعداد تبدو ضئيلة عند مقارنتها بالعدد الإجمالي للطلبة الذي يتجاوز عشرات الألوف. كما أن الإنفاق على الفروع المفتتحة في البلدان الخليجية تتحمل معظمه الحكومات المُستضيفة أو أطراف محلية. الجانب الآخر من كشف الحساب، والخاص بسلبيات فكرة افتتاح فروع للجامعات الغربية في الخليج، يقوم على فكرة أساسية هي أن الدراسة في الجامعات الكبرى في الغرب (وهي الجامعات التي تستهدفها الحكومات الخليجية) لا تنحصر في مسألة الحصول على الدرجة الجامعية، بل هي الانخراط في التجربة الأكاديمية والحياتية الغنية للجامعة بكل غناها وتنوعها. ولهذا، فإن عدداً من الجامعات العريقة مثل كامبردج وأكسفورد لا تزال ترفض فكرة افتتاح فروع لها في أي منطقة من مناطق العالم بما فيها منطقة الخليج. ويقوم هذا الرفض على قناعة هذه الجامعات بأن هناك شيئاً ثرياً اسمه «تجربة كامبردج» أو «تجربة أكسفورد»، وهي تجربة لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الالتحاق بالجامعة والعيش في المدينة والتفاعل مع الكلية والانخراط في ذلك كله، هذا فضلاً عن هم الحفاظ على المكانة الرفيعة للجامعة، وضمان مراقبة المستوى العالي للأكاديميا فيها. لكن وفي الوقت نفسه، هناك حرص متنام لدى هذه الجامعات على إقامة جسور تواصل أكاديمي وبحثي متينة مع الآخرين كي تبتعد من مربعات العنجهية والغرور، وللمحافظة على حضور عالمي. ويندرج في سياسة الجسور الأكاديمية انتشار مراكز الدراسات العربية والإسلامية المدعومة من جهات عربية حكومية أو اعتبارية أو حتى من جانب أثرياء عرب. وهذه الطريقة أفضل بكثير من بناء فروع لهذه الجامعات في المنطقة العربية، لأن الجامعة نفسها لا تقدم أي تنازلات على صعيد المستوى الأكاديمي وموضوعية البحث العلمي أو شفافية الإدارة وقبول الطلبة. وفي الوقت نفسه يتيح فتحها أبواب التعاون مع الأطراف الأخرى مجالات الاستفادة والتدريب والتأثير المتبادل. وعلينا أن نتذكر هنا أن معظم فروع الجامعات الغربية في منطقة الخليج تركز على العلوم التطبيقية وليس الإنسانية، لأن العلوم الإنسانية تحتاج إلى سقف حريات بحثية وأكاديمية ما زال غير متحقق هناك. وبالتالي، فإن الخدمة البحثية التي يمكن أن تقدمها هذه الفروع في دراسة الشؤون المحلية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تظل محدودة، بخلاف ما تحققه العملية البحثية في تلك الشؤون نفسها والتي تتم في الجامعات الأم حيث لا توجد تلك الأسقف أو ترتفع في شكل كبير. وعلى كل حال، ربما لا تزال تجربة افتتاح فروع للجامعات الغربية في الخليج في مرحلتها الأولى ومن المُبكر الحكم عليها. لكن ما نستطيع الحكم عليه بدرجة أكبر من الثقة هو المنهج الثاني، «منهج التجربة والانخراط»، اي التواصل مباشرة مع الجامعة الأم. وبين أيدينا تجربة تبلورت أخيراً بين جامعة كامبردج ومركز الخليج للأبحاث ومقره دبي، حيث افتتح في السنة الماضية فرعاً للمركز في كلية الدراسات الآسيوية والشرق أوسطية. وانطلق المركز من ناحية عملية في هذا الصيف من خلال حدث أكاديمي ضخم هو الأول من نوعه في كامبردج وأطلق عليه «ملتقى الخليج للأبحاث» Gulf Research Meeting، والذي اتفقت الجامعة والمركز على أن يكون حدثاً سنوياً ويحقق سمعة عالمية بكونه اللقاء الأكاديمي الأهم في العالم حول الخليج. وفي الملتقى الأول توافد أكثر من ثلاثمئة باحث وأكاديمي من كل دول العالم، من الولاياتالمتحدة وأوروبا والشرق الأوسط وآسيا والصين واليابان، إلى كامبردج وقدموا أبحاثاً ودراسات حول كل ما يتعلق بالخليج على مدار أيام عدة. ويكفي التأمل في عناوين ورش العمل الكثيرة لأخذ فكرة عن اتساع نطاق البحوث والدراسات التي قُدمت في الملتقى وغطت ما يتعلق بالمصادر الطبيعية والطاقة والهجرة والعمالة والقطاع البنكي والمالي وسياسات البيئة وعلاقات الخليج بأوروبا والصين والهوية الوطنية والإسلام السياسي والمشاركة السياسية والأمن والتعليم العالي ودور القطاع الخاص... وسوى ذلك. يفيدنا هذا المثال في توفير اكتشاف عملي لفوائد «منهج التجربة والانخراط» المكثف، عوض التواصل الخيطي المتقطع والمنقطع عن بيئته. وتمكن هنا قراءة أكثر من جانب مضيء في هذا المثال المشجع. ابتداء ومن ناحية المضمون الأكاديمي، أوجد الملتقى ارضاً وسطى تجاوزت الاختزالات الثنائية في الدراسات الشرق اوسطية والخليجية بين ما هو استشراقي كلاسيكي وما هو اعتذاري مجامل. وهذه الأرض الوسط هي بالضبط ما تحتاجه المنطقة من ناحية البحث الأكاديمي والعلمي وفي شكل ماس. فهي من ناحية تبتعد من الرؤى المُسبقة والمُستفزة لتطرفات الاستشراق الكلاسيكي وهي التطرفات التي انتجت ولا تزال تنتج ردود فعل عاطفية ودفاعية يفيض كثيرها بالتبسيط والطهورية الساذجة، كما تبتعد من الناحية الثانية عن المقاربات الاعتذارية والمجاملاتية التي تتوسل «الصوابية السياسية» وتفرغ بالتالي أي مقاربة نقدية من جوهرها الشاحذ للفكر. ويمكن القول إن معظم البحوث التي قُدمت الى الملتقى تنتسب في شكل أو في آخر إلى هذه الأرض الوسطى، وهو أمر ايجابي يستجمع الثقة بالنفس إلى جانب النقد، بعيداً من جلد الذات وبعيداً من تبرئتها في آن معاً. من جهة ثانية، ومحض إدارية هذه المرة، تركت التجربة أثراً ايجابياً وثقة عند الجامعة نفسها، ذلك أن الأجندة الأكاديمية ومستتبعاتها الإدارية والتنظيمية كانت «خارجية»، بمعنى انها كانت مسؤولية مركز الخليج للأبحاث وليس الجامعة، وتطبيق ذلك كله كان بمستوى مهنية إسم الجامعة نفسها. وهنا بالضبط يكمن جانب آخر من جانب «منهج التجربة والانخراط» الذي يشير إلى ارتقاء الأداء المحلي عند تفاعله بعمق مع الخارج وفي ميادين الأصل وليس الفرع. ثم تبقى الإشارة في سياق كهذا إلى أن «منهج التجربة والانخراط» وعندما يتم على مستوى مؤسساتي وفردي، كما يقدمه لنا المثال الاخير، يدفع بالنقاش حول سياسات التعليم العالي في المنطقة العربية إلى مربعات جديدة وعولمية. وفي قلب النقاش والسياسات تقع اطروحة توجيه التعليم العالي نحو تشجيع العلوم التطبيقية والعملية بحسب إحتياجات السوق مقابل أطروحة الاهتمام بالعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تُظهر ارتباطاً أضعف بحركة السوق. ويُطرح هنا بقوة دور الدولة والقطاع العام، أو الجهات غير الربحية الداعمة في تشجيع البحث في العلوم الاجتماعية التي توفر البنية التحليلية والمفهومية لطيف يبدأ ولا ينتهي من المعضلات التي تقع خارج نطاق العلوم التطبيقية وقصورها. ونعلم جميعاً أن فورة التعليم الجامعي في المنطقة العربية، وفي الخليج تحديداً، هي فورة علوم تطبيقية وتحتاج إلى استكمال متواز عبر فورة مشابهة في العلوم الإنسانية. * محاضر في جامعة كامبردج – بريطانيا [email protected]