إنها سورية أخرى تلك التي يكتبها بدقة وحب، المعماري ومؤرخ العمارة السوري ناصر رباط (أستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا). فهي ليست سورية التي توزعت صورتها ما بين السياسة وباب الحارة، بل هي سورية «مهد الكلاسيكية المتأخرة والمسيحية المبكرة الأكثر ثراء وتنوعاً والأقل جلاء في العالم». ففي كتابه الأخير (المدن الميتة، دروس من ماضيها ورؤى لمستقبلها) الصادر حديثاً عن دار الأوس للنشر، يكشف ناصر عن الوجه المسيحي للهوية والحضارة السورية، من خلال المواقع الأثرية الواقعة في منطقة جبل البلعاس، التي تؤلف مجتمعة (أكثر من ثمانمئة موقع) المدن الميتة. وتعود هذه التسمية إلى منتصف القرن التاسع عشر مع الفرنسي ميلكيور دو فوجيه Melchior de Vogüé، الذي زار المنطقة عام 1861 وكتب عن عمارتها المتميزة، قبل أن تتبعه مجموعة من البحاثة الأجانب في سبر أسرارها من خلال وصف مبانيها وكنائسها، لعل من أهمهم في نظر رباط الروسي/ اللبناني جورج تشالنكو، والفرنسي جورج تات الذي ركز على سرجيلا، فضلاً عن ثلاثة آباء فرنسيسكان إسبانيين: ايغناثيو بينيا، باسكال كاستلانا، رومالدو فرنانديز، وغيرهم الكثير من الأجانب. أما من الجانب العربي، فتظهر الأمور أقل إشراقاً من ناحية الكتابة والبحث والتوثيق. وعلى رغم أن رباط يشير إلى كل كاتب وباحث عربي اهتم بالموضوع، إلا أن ذلك لا يبدد من فداحة التقصير تجاه هذه المواقع المتميزة وشبه المجهولة. ولعل هذا ما يضع كتاب ناصر في موقع بين بين، فهو من جهة نتاج بحوث علمية أكاديمية رصينة، لكنه من جهة ثانية نتاج تفكير عملي طويل، عرف عن كثب النواقص الكثيرة من خلال زيارات ميدانية مع صديق (منها مثلاً عدم توافر منشورات وخرائط علمية مفصلة، وعدم وجود خطط عامة لتنظيم استثمارها، إذ لا يزال العديد منها مهملاً من دون خدمات أو حتى حراسة)، وأدرك أثرها السلبي عشية الانفتاح الذي تعيشه سورية. فالاستثمار السياحي للمدن الميتة أو - القرى المنسية بتعبير ناصر - على الأبواب، ويظهر أن ثمة جهوداً رسمية تُبذل حديثاً من أجل وضعها في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي، الأمرُ الذي يتسقُ تماماً مع النبرة التحذيرية التي يستعملها ناصر، فالقصد هو «الحفاظ عليها من دون أن تستهلك هذا التاريخ أو تدمره أو تصبح شاهداً مزوراً وتجارياً وديزني لاندياً عليه». من هنا، يطرح في كتابه رؤية لاستثمارها سياحياً، على نحو لا يختل فيه التوازن الأساسي بين الطبيعة والآثار والاقتصاد والثقافة المحلية والسياحة. ومن أجل توضيح هذه النقطة عمد ناصر إلى وصف دقيق لكل ما يتصل بالقرى المنسية، فمن مواقعها بدقة، إلى مبانيها وكنائسها ومعاصر الزيتون وصنع النبيذ، إلى التركيب الطبقي الاجتماعي فيها، المتميز بقلة الفروق الطبقية بين السكان، وصولاً إلى حياتها الاقتصادية القائمة على المحاصيل المتوسطية المقدسة: الزيت والخمر والقمح، وعلى السياحة الدينية، فضلاً عن تميزها بنحت الحجارة وصقلها، وغلف ذلك كله عبر عرض سريع لأهم النظريات وأشهرها، التي بحثت في ازدهار القرى المنسية وانحطاطها. والحامل الأساس لعرض هذه النظريات ومناقشتها ليس إلا وجهة نظر الأكاديمي المعماري السوري اللامع، التي تقوم من جهة على رفض المسبِب الوحيد للازدهار والانحطاط والقول بالتفسير المتعدد المسبّبات، وفاقاً مع وجهة نظر تشالنكو أولاً، التي عمقها وزاد عليها لاحقاً تات والآباء الفرنسيسكان. وتقوم من جهة ثانية على وضع سورية ضمن إطار أقرب إلى تاريخها الغني المتعدد، فسورية عاشت لمدة ألف سنة (332 قبل الميلاد – 634 بعد الميلاد) كجزء من «عالم متوسطي كلاسيكي هلنستي بدءاً وروماني لاحقاً ثم مسيحي بيزنطي». بيد أن وضع المكان ضمن إطار أقرب إلى تاريخه، يجلو عنه صورته كمهد للكلاسيكية المتأخرة والمسيحية المبكرة يصطدم فوراً مع وجهة النظر الأوروبية، أو بصورة أدق مع صورة أوروبا عن نفسها. إذ إن أوروبا عصر التنوير (القرنين 18 و19) وعت ذاتها ف «نسجت لنفسها تاريخاً مركباً... رتبت الحضارات والشعوب والثقافات الأخرى وفقاً لعلاقتها بها على مر الزمن. وهي قد صنعت سلسة تاريخية متميزة ومتصلة من بدايات مصرية ورافدية وأناضولية مفترضة واستحوذت لنفسها على التراث الكلاسيكي كله من اليونان إلى روما إلى الحضارة الهلنستية وفي النهاية إلى المسيحية نفسها، مع أن أوروبا الجغرافية لم تلعب دوراً يذكر في أي من هذه الحركات الحضارية التي جرت على ضفاف المتوسط». وفي عبارة أبسط، قامت أوروبا بالاستحواذ على تاريخ الآخرين واحتكرته لصورتها عن نفسها، نافية بذلك مساهمات السكان المحليين وتفاعلهم مع القادمين. وفي الجملة نسجت تاريخها المتسلسل الذي لا يشوبه انقطاع، بينما ظهر تاريخ السكان المحليين متقطعاً، من حيث ظهر منقطعاً عن جذوره، ملتفتاً إلى أمرين: الجذور السامية ولحظة الفتح الإسلامي، على نحو أُخرج فيه ألف عام من المساهمة المحلية في الحضارة الإنسانية، وهو ما يظهر أيضاً في ما «اقتبسته الأدبيات العربية الوحدوية». وتستحق وجهة نظر ناصر أن يُفرد لها كتاب برأسه، بيد أنه آثر على ما يبدو أن يمررها عبر المعلومات الكثيرة الهائلة عن القرى المنسية، لأن القصد من الكتاب هو فضلاً عن «تعزيز مكانتها في المخيلة السورية المعاصرة»، وضع تصور لكيفية استثمارها سياحياً، وهو ما كرس له ناصر الفصل الأخير (القرى المنسية اليوم)، حيث أدى البحث العلمي دوره كاملاً، إذ حقيقة أن الازدهار الأصلي للمنطقة يغطي الفترة المسيحية لسورية، يعني عملياً الاعتماد على «اقتصاد حساس ومرن ومتعدد القواعد»، يولي الأهمية الكبرى لقاطني القرى وسكانها، فيبسط أمامهم دروب الزراعة والسياحة والصناعات البسيطة ونحت الحجر، المتضافرة مع فرص الاستثمار التي لا تنتهك الآثار المسيحية من خلال الفنادق الفخمة، بل على العكس توفر للزائر تجربة روحية عبر تسليط الضوء على ما في «صورة المسيحية المبكرة من بساطة ونقاء»، تُظهرها العمارة أو «كتاب التعبير الأول والأزلي للحضارات قبل اختراع الطباعة». وهذا صحيح بالعلم وبالحجر أيضاً، ففي قرية الشيخ سليمان ثمة كنيسة العذراء مريم الرائعة، التي تعود إلى أواخر القرن الخامس الميلادي، على بابها الشمالي باليونانية: «يا قديسة مريم». ولا ريب في أن كتاب ناصر رباط يضع الإصبع أيضاً على جرح حالي يسيل في دمشق القديمة وتحديداً في حيها المسيحي الشهير: باب توما الذي أهداه الشاعر السوري محمد الماغوط القصيدة الشهيرة (أغنية حب إلى باب توما)، فالجرح يسيل طرداً كلما سرت إشاعة حدها حد الخبر اليقين، ومفادها أن البيت المسيحي الأجمل في باب توما وقع في قبضة استثمار غامض، يقول بتحويله تارة إلى فندق فخم لا يتناسب مع النسيج المسيحي الحميم وأهله، وتارة أخرى بتحويله إلى متجر فخم يضم ماركات عالمية، أسوة بسلسلة متاجر مماثلة منها واحد في دمشق وكثرٌ في لبنان. والبيت الشامي المسيحي ليس إلا بيت أنطون شامية أحد أهم وجهاء المسيحيين في القرن التاسع عشر، وقد تم ترميمه كاملاً عام 1866 بأموال التعويضات التي أُعطيت للمسيحيين المتضررين بعد حوادث عام 1860. وتذكر المصادر التاريخية أن بيت أنطون شامية كان «معروفاً يومها بأنه أجمل وأفخم بيوت دمشق على الإطلاق»، وإعادة ترميمه تحمل معاني رمزية لا حصر لها، فمنها تمسك المسيحيين بمكانهم في دمشق القديمة، ومنها التسامح الديني بعد المذابح الرهيبة، ومنها تميز البيوت المسيحية الشامية بخصائص معمارية وزخرفية كتب عنها أكثر من باحث. وفضلاً عن هذا فللبيت ذاكرة تاريخية، إذ إن الإمبراطور الألماني غيوم الثاني زاره عام 1898 نظراً إلى المكانة الرفيعة التي تمتع بها أيضاً جبران شامية بعد وفاة والده أنطون. ثم أوقفتْ العائلة منزلها الجميل الفخم للبطريركية الكاثوليكية، التي حولته إلى إحدى أهم المدارس: مدرسة الرعاية الخاصة أو مدرسة راهبات البيزنسون. وهو ما انسجم تماماً مع تحويل القاعة الرئيسة فيه إلى كنيسة رائعة، فضلاً عن وجود أيقونة جدارية مبهرة لمريم العذراء في ليوانه. بيد أن انتقال المدرسة خارج السور أعاد البيت الجميل العريق إلى صيغته: وقف مسيحي. وبدلاً من أن يتم التفكير بالإفادة منه عبر تأكيد معانيه ورموزه، وقع خبر قرار تحويله متجراً أو فندقاً وقع الصاعقة على المسيحيين غير الراضين حتماً. وكان يُفترض بالمؤتمن على أوقاف المسيحيين، أن يأخذ في الاعتبار على الأقل أموراً ثلاثة: تاريخ البيت ورمزيته، ووجود الكنيسة فيه فضلاً عن عمارته البهية، قبل أن يقدم على قرار مماثل يقعُ في تناقض صارخ مع التوجهات الرسمية في أعلى مستوياتها، التي يمكن رؤيتها بالعين من خلال مثلاً لا حصراً ترميم وإعادة تأهيل الطريق المستقيم الذي مشى عليه بولس الرسول، أو ترميم بيت نظام وفتح أبوابه للزوار. ربما كان على المؤتمن على أوقاف المسيحيين وأملاكهم أن يقرأ كتاب ناصر رباط ليعرف سورية المسيحية ويقدر جلالها ومهابتها وتاريخها الغني، فقد يفكر ثانية في ما يفعله وقد يفكر ملياً باقتراح بسيط: العمل على تحويل بيت أنطون شامية إلى متحف للفن المسيحي، يضم مثلاً الأيقونات السورية، وصناعة الحرير التي تميز المسيحيون بها وتعرضت لضربة موجعة إبان أحداث 1860، فيكرس بذلك سياحة ثقافية دينية تنسجم مع باب توما ودمشق القديمة، وترنو باتجاه القرى المنسية لتؤلف معها عالماً جميلاً فيه ما في المسيحية من بساطة ونقاء، وفي انتظار إعادة النظر بمصير بيت أنطون شامية نلتجئ «في ظل حمايتها» وندعو دعاء أهل القرى المنسية: «يا قديسة مريم».