لم يعد أمام غالبية السودانيين - وبلادهم يهددها التمزق والانفصال والمصير المجهول - سوى التعلق بالوهم وتمني النهايات السعيدة، أن تأتي نتيجة استفتاء شعب الجنوب في كانون الثاني (يناير) المقبل مؤيدة لبقاء وحدة السودان. أن يفيق فجأة الحزب الحاكم على التقدير الصائب لمدى خطورة الوضع ومصائر العباد. أن يحدث شيء ما يجر البلاد - بقدرة قادر - إلى بر الاتحاد، بعيداً من لجج التشظي والتفتت. إنهم عاجزون تماماً. من منهم يملك قدرة سحرية على تغيير بوصلة الأحداث، من دون إراقة دماء، ومن دون تغيير جذري في مصير البلاد؟ القدرة الخيرة والشريرة بيد حكومة الخرطوم التي تسيطر عليها فئة محددة، ظلت تعرف بالتشدد والتهور منذ عهد السودانيين بها في صفوف الجامعات. بعد مضي عقدين على سيطرة تلك الفئة على مقاليد السلطة، وبعد محاولات متكررة للانفتاح على السوداني الآخر، استلت أسلحتها القديمة للتشدد والعناد والانتصار فوق جماجم الشعب، لتطفئ بها لهيب المطالبة بمشاركة حقيقية وعادلة في الحكم وصنع القرار، واستحقاقات الديموقراطية، وإعادة الحقوق إلى أصحابها. كلفت غازي صلاح الدين العتباني ملف دارفور، وعيّنت أمين حسن عمر رئيساً لفريق التفاوض الحكومي مع ثوار دارفور. أطلقت يد نافع علي نافع على أمن البلاد وقوت العباد. وكانت نتيجة طبيعية لهذه التركيبة الفريدة أن يصاب تنفيذ اتفاق السلام الشامل مع الجنوبيين بشلل كامل، وتصاب معه العلاقة مع أبناء الجنوب بأقصى درجات التوتر والكراهية. وذهب الجنوب، وبقيت دارفور تنتظر التوقيت المناسب لإعلان مطالبة ثوارها بحق تقرير المصير. ولأن تلك المجموعة تعتقد يقيناً بأن المعركة معركتها هي وحدها، بسطت هيمنتها الكاملة على مسرح السياسة الداخلية، فأغلقت الصحف، وأعادت الرقيب «القبلي» ليقوم بدور رئيس التحرير الحقيقي في ما أبقته على قيد الحياة، ونشطت تحت ستار مقاومة أمر القبض الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية على رئيس الجمهورية، بتهمة الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، في حشد الوسائط الإعلامية بلغة الحشد والتخوين وتجييش الشعب كله لمحاربة أمر قضائي لن تسقطه التظاهرات، ولن تلغيه تصريحات الشجب والتنديد. وهكذا أصبح المتحدث من السودانيين - ساسة وعموماً - بأي حديث عن قرار المحكمة الجنائية الدولية غير الشجب والتنديد خائناً وعميلاً مدسوساً وخصماً يلزم التخلص منه. يقول رئيس الوفد الحكومي لمفاوضات الدوحة حول إحلال سلام في دارفور أمين حسن عمر إن امتناع حركة تحرير السودان التي يتزعمها المحامي عبدالواحد محمد نور، الذي يقيم في العاصمة الفرنسية باريس، عن الالتحاق بالمفاوضات لن يعوق السلام، بدعوى أن عبدالواحد أضحى واحداً، إذ هجره مقاتلوه ورفاقه. ومن الواضح أن سياسة الحكومة التي ترسمها هذه الفئة قررت الانصراف إلى تصفية عناصر حركة العدل والمساواة التي يتزعمها الدكتور خليل إبراهيم المقيم في العاصمة الليبية طرابلس. وهو ما تقوم به الخرطوم بقلب غير راحم، من قصف جوي ومدفعي وهجمات تستهدف القرى والمناطق التي حررتها قوات العدل والمساواة في دارفور. كان رئيس ملف دارفور الحكومي غازي صلاح الدين المهندس الحقيقي لمأساة تقرير مصير جنوب السودان، إذ كان رئيساً لمفاوضي الحكومة في محادثات السلام مع متمردي الجنوب. وكان وفد الحكومة يخرج متأنقاً ومتهندماً للجلوس إلى موائد التفاوض في فنادق نيروبي وأديس أبابا، فيما كانت الطائرات تشن غارات على القرى والمستنقعات الجنوبية، وكان التلفزيون الحكومي يعرض مسلسلاً أسبوعياً لشهداء «الجهاد» من أبناء المسؤولين الحكوميين والحزب الحاكم. الشيء نفسه يتكرر بالأيادي والأفواه والسياسات نفسها. عبدالواحد أضحى واحداً - كما قال كبير مفاوضي الحكومة - لكن ذلك لم يحقق سلاماً. والمسألة لم تعد تحتاج إلى «حصة تقوية»، ولا «درس عصر» كما يقول السودانيون. ليس أمام خليل وعبدالواحد في نهاية المطاف سوى المطالبة بتقرير المصير. عبارة ساحرة ومقيتة في آن معاً، لكن معناها في القانون الدولي سينقل القضية إلى واقع مختلف تماماً. وليست تجربة ثوار جنوب السودان ببعيدة. بيد أن انفصال الجنوب، واستئثار دارفور بحكم ذاتي أو استقلال تام، لن يكونا الصخرة التي ستوقف تدحرج كرة التشظي والتفتت. شرق السودان - أرض قبائل الهدندوة والبجا الصعبة المراس - يغلي بالمطالب والمظالم. ولاية شمال كردفان - موطن «الأبّالة» و«البقّارة» - باتت على مشارف تمرد مسلح. ستعود البلاد إلى تيهها الذي استمر منذ سقوط دولة مروي في عام 300 للميلاد، حتى تدخّل مصر العثمانية لاستعمار البلاد وتوحيدها في عام 1821. هل يأتي يوم يكون فيه السودانيون بحاجة إلى «محمد علي» جديد ليعيد توحيد بلادهم؟ أم أنه تشاؤم مقيت وفزع من مصير مجهول؟ ليت الأيام والحادثات تكذِّب ما يتراءى للعين. * صحافي من أسرة «الحياة».