ما إن تخطو الدراما التلفزيونية اللبنانية خطوة الى أمام عبر أعمال رصينة تملك شرعيتها الفنية حتى تتراجع خطوات الى وراء من خلال أعمال ضعيفة تبدو كأنّ لا علاقة لها بالفن المرئي - المسموع ولا بمفهوم الكتابة الحديثة والإخراج... أعمال تكاد تكون بدائية وخارج العصر وبعيدة من الثورة التقنية في عالم التلفزيون. واللافت أن الكثيرين باتوا يستسهلون العمل الإخراجي وفي ظنهم أن مجرّد الانتقال من أمام الكاميرا الى ما وراءها «عملية» سهلة ولا تتطلب خبرة واختصاصاً ووعياً تقنياً عميقاً. هذه «النقلة» من التمثيل الى الإخراج باتت ظاهرة في الدراما اللبنانية، وأضحى بعض الممثلين (قديرين كانوا أم لا) مخرجين بين ليلة وضحاها من دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء الدراسة الأكاديمية والاختصاص في حقل الإخراج والتمرّس في تقنياته. وقد فات هؤلاء أنّ الإخراج ليس مجرّد «توليفة» بين الكاتب والمخرج والمصور بل هو عمل متكامل يعيد المخرج عبره كتابة النص بصرياً جاعلاً من السيناريو الذي بين يديه منطلقاً لأفق أو فضاء من التصوير والحركة، عطفاً على إدارة الممثلين التي تحتاج بدورها الى تخصّص في حقل الدراما. لا أدري ما الذي دفع ممثلاً قديراً مثل فادي ابراهيم الى الانتقال الى ما وراء الكاميرا ليصبح مخرجاً، هكذا، من دون سابق تصوّر. هل ضجر فادي ابراهيم من التمثيل ومن الأدوار التي أداها بنجاح؟ قد يحق له أن يضجر من التمثيل ولكن هل يحق له أن يفاجئ الجمهور متلبساً دور المخرج الذي - كما يعلم هو جيداً - يتطلّب الاختصاص الشامل، بالكاميرا كما بالسيناريو والنص والتمثيل. مفاجأة فادي ابراهيم الجديدة للجمهور التلفزيوني كانت مسلسل «جود» الذي بثته المؤسسة اللبنانية للإرسال أرضياً (وتعاود بثه فضائياً لاحقاً). هذا المسلسل كتبه فراس جبران وشارك في بطولته ممثلون قديرون وفي طليعتهم بديع أبو شقرا وميشال حوراني... وقد تكون المشكلة الأولى في المسلسل هي فقدانه «هويته» الدرامية: هل هو من نوع «البسيكو دراما» أم الدراما البوليسية أم الدراما الاجتماعية...؟ هذا السؤال لم يستطع الكاتب ولا المخرج أن يجيبا عنه حتى غدا المسلسل بلا هوية بل مشوّه الهوية. فالبطل «جود» مريض نفسياً وقد حلّ فترة في المستشفى العقلي قبل أن يهرب منه. ولكونه صحافياً تحوّل مرضه الى ما يشبه التحقيق البوليسي الغامض أو المشوّش، لكن المشاهد لا يلبث أن يكتشف أنه يهذي ويتخيل أموراً وأشخاصاً(؟) لا علاقة لهم بالواقع. بدا واضحاً أن الكاتب والمخرج لم يستشيرا طبيباً نفسياً ولم يعتمدا المراجع البسيكولوجية أو الكتب. فهذا الصحافي لم يتضح مرضه: هل هو مصاب بالانفصام أو «السكيزوفرنيا» أم أنه يعاني حالاً من الاضطهاد أو الهذيان المرضي؟ كيف كان على الجمهور أن يعلم ما دام الكاتب والمخرج لا يعلمان، وقد شاءاه مجنوناً وكأنّ الجنون صفة يمكن إطلاقها جزافاً. وهذا ممنوع بتاتاً في الأعمال الدرامية والسينمائية الغربية مهما ضؤل حجمها. جود إذاً صحافي، لكنه لم يبد صحافياً حقيقياً تماماً مثل صاحب الجريدة وابنته اللذين انتحلا هذه الصفة. جود مجنون ولكن بحسب التهمة الشعبية الشائعة، حتى الطبيبان لم يحدّدا طبيعة مرضه وحيثياته. قُتلت امرأته في حادثة سيارة وظل موتها مبهماً... هذا جود - البطل - باختصار في قضيته الناقصة و «المهتزة». ويأسف المشاهد أن يورّط الممثل القدير والمثقف بديع أبو شقرا نفسه بمثل هذا الدور المرتبك وحاول أبو شقرا أن يرسّخ ملامحه ونجح ولكن خارج مدار الشخصية ومعطياتها. ومثله أيضاً نجح الممثل ميشال حوراني، ابن التخصص المسرحي أن ينقذ نفسه من هذا العمل المضطرب والركيك فأدّى دوره الهامشي أصلاً على طريقته ووفق إحساسه الشخصي به. وبدا فاضحاً أن الممثلين لم يخضعوا لإدارة الإخراج فراح كل ممثل يمثل على طريقته وبعضهم راحوا يسمّعون أدوارهم. فالشخصيات أصلاً منفصلة ولا يجمع بينها سوى الخيط الحدثي أو الكرونولوجي. الطبيب ليس طبيباً والصحافي ليس صحافياً والأشخاص المتخيلون (لا سيما يعقوب) ليسوا فعلاً متخيّلين. أهكذا يتوهم المريض العقلي الأشخاص؟ ثمّ ما الذي دفع الكاتب والمخرج الى حشر قصّة الحبّ الغريبة التي كان بطلها فتى مراهقاً وقع في عشق أمّ حبيبته؟ وما علاقة الفتاة التي ماتت بجرعة المخدّر بجو المسلسل؟ شخصيات مفككة وقصص غير مقنعة ووقائع تفوق التصوّر لم يستطع الكاتب والمخرج أن يصوغاها في نسيج درامي متين ومتماسك، فبدا المسلسل مفككاً وركيكاً جداً. أما الطريف فهو اللجوء الى ملكة جمال لبنان نادين نجيم لتؤدّي دور الزوجة المخدوعة والحبيبة الخائبة والصحافية التي لا علاقة لها بالصحافة! لكن وجه نادين لم ينقذها من الوقوع في السطحية الفاضحة، مثلها مثل معظم الممثلين. والأسف الذي لا بدّ من ابدائه هو إيقاع ممثلة كبيرة في حجم امال عفيش في فخ هذا المسلسل الذي لا يحتمل أي تصنيف.