لا شك في أن غايتانو دونيتزيتي ايطالي، ليس فقط في هويته وانتمائه القومي، بل ايضاً في أساليبه الموسيقية ومصادر وحيه، خصوصاً في ذلك النوع الشعبي من الأوبرا الذي كتبه. كان إيطالياً الى درجة ان فيردي، مواطنه، قال عنه مرة: «إن دونيتزيتي هو الوحيد الذي عرف كيف يحافظ على طابع الأوبرا الإيطالية» خلال المرحلة الزمنية، التي تبدو للبعض خاوية، والتي تفصل بين ذروة نشاط روسيني، وبدايات فيردي نفسه. ومع هذا إذا تحرّينا الامور جيداً اليوم فسنجد ان الانكليز يحبون هذا الموسيقي الايطالي، أكثر مما يحبه الايطاليون. ففي انكلترا تقدم أعماله الكبيرة باستمرار، وتصدر عنه الكتب من دون هوادة، وفي لندن نفسها المركز العالمي ل «جمعية دونيتزيتي» التي تنشر مجلة فصلية تبحث في موسيقى صاحب «لوتشيا» و «آنا بولينا» وغيرهما من أعمال خلدت اسم دونيتزيتي، وأكثر من هذا: أعطت التاريخ البريطاني مكاناً في تاريخ الأوبرا، يقارنه البعض بما حصل عليه هذا التاريخ في المسرح على يد شكسبير، وفي الرواية على يد سير والتر سكوت. صحيح أنه في زمن دونيتزيتي (النصف الاول من القرن التاسع عشر) كان التاريخ البريطاني نفسه على الموضة، بالدسائس والصراعات على العرش وضروب الخيانة الدامية التي تملأه، ولكن فيما كان الكثيرون من الفنانين الأوروبيين يستوحون بعض سمات ذلك التاريخ، كان دونيتزيتي يغوص فيه ويخدمه موسيقياً، في أعمال كثيرة لا تزال ضمن «الريبرتوار» العالمي - والانكليزي - حتى الآن، ومن بينها الثلاثية التيودورية («آنا بولينا»، «ماري ستيوارت» و «روبرت ديفيرو»)، وأيضاً «لوتشيا دي لا ميرمور»، ذلك العمل الذي أوصل سمعة دونيتزيتي الى الذروة، ولا يزال كبار مغني الأوبرا يتنافسون في تقديمه الى اليوم. ولعل ما يلفت في هذا كله ان دونيتزيتي، الذي كانت موسيقاه - إن لم تكن مواضيعه - مرتبطة بالحساسية الايطالية أكثر من ارتباط أي موسيقى بها،عيّن، في عام 1842، وبعد التقديم الصاخب لأوبراه «ليندا دي شامونيكس» في فيينا، «مؤلفاً في بلاط آل هابسبورغ»، في وقت كانت مسرحية «نابوكو» (نبوخذ نصر) لمواطنه وخليفته جيوزيبي فيردي تتهيأ لبلورة الإحساس بالوحدة الايطالية ضد الاحتلال النمسوي، وينظر الايطاليون الى فيردي بصفته بطلاً قومياً. ولعل هذه الحكاية التي يعرفها الايطاليون جيداً هي التي وسعت الهوّة بين دونيتزيتي وبينهم، هوة تواصلت عشرات السنين. ولكن اليوم، بعدما هدأت العواطف القومية، وغلب الاحساس بالموسيقى الاحساس بالسياسة، عاد دونيتزيتي الى مكانته، وإن ظل يحتل في ايطاليا مكانة رابعة بعد فيردي وروسيني وبلليني. كما أشرنا، كانت أوبرا «لوتشيا دي لاميرمور» (وتعرف عادة باسمها المختصر «لوتشيا») فاتحة شهرة دونيتزيتي على الصعيد العالمي. وهي قدّمت للمرة الاولى خلال شهر ايلول (سبتمبر) 1835 على خشبة مسرح سان كارلو في نابولي، علماً أن أعمال دونيتزيتي اعتادت ان تكون شديدة التنوع في أماكن تقديم عروضها الأولى، وإذ نجدها تقدم حيناً في روما وحيناً في فيينا وأحياناً في باريس وفلورنسا... الخ. وعن هذا الموضوع قال أحد كاتبي سيرة دونيتزيتي: «ربما يعود هذا التنوع الى غزارة انتاج هذا الفنان، فهو كتب طوال ثلاثين سنةً من حياته، نحو سبعين أوبرا، ما يجعل من المستحيل على مسرح واحد أو على مدينة واحدة استيعاب أعماله كلها». وهو قول لا يبدو بعيداً من الحقيقة لأن دونيتزيتي كان فعلاً خصب الانتاج، لا سيما منذ العام الذي مات فيه صديقه ومنافسه روسيني، ما جعله يشعر بسرعة مرور السنين ويقرر أن ينهمك أكثر فأكثر في العمل. اقتبس دونيتزيتي أوبرا «لوتشيا» عن نص كتبه سالفاتوري غامارانو انطلاقاً من رواية سير والتر سكوت المعروفة «عروس لا مرمور» (1819). وهذه الرواية على غرار معظم انتاج سكوت، تتناول فصلاً من تاريخ انكلترا، من خلال اشخاص عاشوا ذلك التاريخ وصنعوه، متوغلة في حياتهم الشخصية بصفتها جزءاً مما صنع الحياة العامة. ولئن كانت الأوبرا تتبع، بكل أمانة، رواية والتر سكوت، فإنها تنقل الاحداث الى قرن سابق، أي الى نهاية القرن السادس عشر، حين استولى آل آشتون على قصر رافنسوود في اسكوتلندا، ما مكّن اللورد هنري آشتون من ان يعيش مطمئناً في قصر كان معقل اعدائه الرئيسيين. واذ ارتاح اللورد الى هذا الانتصار، ها هو الآن راغب في تدعيم موقفه السياسي عبر تزويج اخته لوتشيا من اللورد آرثر باكلو، غير أن الاخت ترفض. ويثير الرفض بالطبع شكوك اللورد هنري، حتى يكتشف بالتدريج انها مغرمة بشخص آخر، ويكتشف ان هذا الآخر، ليس سوى ادغار دي رافنسوود سليل الأسرة التي يخاصمها اللورد هنري وسجل عليها انتصاره الكبير. يستبد الغضب باللورد المنتصر، اذ يشعر أن هذا الغرام الذي لم يكن في الحسبان انما يشكل بالنسبة اليه هزيمة ما بعدها هزيمة. وذات ليلة يحدث ان تلتقي لوتشيا حبيبها ادغار قبل رحيله الى فرنسا، فيخبرها هذا انه في طريقه الى محاولة التصالح مع اللورد هنري عبر طلب يدها منه، غير ان لوتشيا تنبهه حزينة الى استحالة هذا لأنها تعرف جيداً أخاها ومشاعره. وينتهي ذلك المشهد بتبادل الحبيبين خاتميهما دليلاً على ديمومة حبهما وارتباطهما الأبدي. وفي المشهد التالي، وإذ يتبين لهنري مبلغ غرام شقيقته بعدوه، يرسم خطة شريرة تقوم على اطلاع لوتشيا على رسالة مزيفة يقنعها خلالها بأن ادغار ارسلها الى امرأة اخرى. فتثور لوتشيا اذ تصدق هذا، وتعلن على الفور موافقتها على الاقتران بآرثر باكلو موقّعة عقد الزواج. غير أن ادغار سرعان ما يظهر وسط حفلة الزواج ليصب غضبه على لوتشيا، ويرمي لها خاتمها قبل ان ينقضّ على هنري وآرثر راغباً في قتلهما، غير ان القس رايموند يتدخل فاصلاً بين المتخاصمين. وخلال الليل، في وقت كانت تهب عاصفة هوجاء (صورتها موسيقى دونيتزيتي في شكل لا سابق له في تاريخ الموسيقى، وسيجد صداه لاحقاً في بعض أروع أعمال فاغنر) يتوجه هنري الى مقر اقامة ادغار ويطلب منه المبارزة، تعويضاً عن الاهانات العلنية التي كان وجهها الى شقيقته لوتشيا، ويكون مكان المبارزة مقبرة آل رافنسوود. في تلك الأثناء كان العرس قد تتالى وانسحب العروسان الى خلوتهما. ولكن بعد حين يعلن أن لوتشيا قد جنت وقتلت عريسها آرثر. ثم تظهر لوتشيا وسط المحتفلين صارخة في الجميع هاذية من دون ان يبدو عليها انها تعرف احداً منهم. ويزداد غضب هنري ويعهد بأخته الى الوصيفة آليسا والى القس رايموند، أما ادغار فيتوجه الى مكان المبارزة وهو غير عارف بما قد حصل، وقد قرر أن يبارز حتى يموت. وهو اذ يخبر بما جرى، يغير من اتجاهه ويقرر التوجه الى حيث أودعت حبيبته المجنونة، فيمنعه رايموند من ذلك، معلناً له ان لوتشيا ماتت، فلا يكون من العاشق الشاب الا ان يقتل نفسه بطعنة خنجر. تعتبر أوبرا «لوتشيا دي لا ميرمور» من أكثر اعمال دونيتزيتي مأسوية، كما ان موسيقاها تعتبر مزيجاً ناجحاً بين الرومانسية والميلودراما. ويقال عادة ان دونيتزيتي أعاد فيها الى فن الاوبرا، الوحدة الشعورية المطلقة بين الموسيقى التعبيرية والمواقف النفسية للشخصيات. وحين أنجز دونيتزيتي هذا العمل كان في ذروة تألقه، وفي الثامنة والثلاثين من عمره. بمعنى انها تعتبر واسطة العقد في مساره الفني. ودونيتزيتي، الذي سيكتب الموسيقى البوليفونية والجنّازات ولا سيما جنّازاً كتبه تأبيناً لصديقه وأستاذه روسيني، على رغم التنافس الذي قام بينهما خلال السنوات الاخيرة من حياة هذا الأخير، اضافة الى اوبراته الكثيرة والمتنوعة بين التاريخية والهزلية والعاطفية، أو تلك التي تمزج الابعاد الثلاثة معاً، ولد عام 1797، أي في العام الذي ولد فيه شوبرت. وكانت ولادة صاحب «لوتشيا» في برغامو التي سيدفن فيها بعد ذلك بواحد وخمسين عاماً، اذ يؤتى به مريضاً فاقداً قواه العقلية، بعد إقامة باريسية انتهت بإيداعه مصحاً في ايفري. وفقد دونيتزيتي عقله بعد ان أصيب، كما يبدو، بداء الزهري، فيما يقول آخرون ان المرض والهذيان استبدا به إثر موت زوجته التي كان مولعاً بها الى حد الجنون. [email protected]