ثمة رغبة عارمة في التمرد، في القفز على المواضعات السقيمة للحياة، وعلى صخبها اللانهائي، وخرسها، بل وهمسها المقموع أيضاً في مجموعة القاص المصري خالد عاشور «همس» والصادرة حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. فالمرأة المهمشة والموضوعة على حافة العالم، تبحث عن صراخ يخرجها من همسها القاهر، ذلك الهمس الذي يصير خرساً مسكوناً بمهانة لا نهائية، وتعبيراً عن قمع ذكوري/ مجتمعي لامرأة تنتظر الرغبة المستعرة لرجلها الذي لا يأبه بها، ولا يلتفت سوى لأن تكون صامتة من دون أية تعبيرات انفعالية أو شعورية: «الليل سكون، وفي السكون يكون للهمس صدى، وهي تخشى أن يسمعها أحد». ثم يحدث ما يسمى بالتحول الدرامي في القصة عبر تلك الشخصية الحافزة أو المحركة للفعل السردي، والتي تدفع الإيقاع الراكد إلى الأمام، فثمة شاب يسكن في العقار الذي يعمل فيه زوجها حارساً له: «يمر عليها مرتين، مرة في الصباح والأخرى وهو عائد في المساء، يسكن بالدور الثالث، كثيراً ما يبعث في طلبها كي تبتاع له حاجياته، كثيراً ما نفذت نظراته إلى داخلها حتى إنها تشعر بأنها تتعرى أمامه أو تكاد». (ص 12). ويصير الصراخ لدى المرأة غاية، والتعبير عن المكنون داخلها أملاً حقيقياً، في علاقتها بالساكن الجديد، غير أنها سرعان ما تعود لهمسها النهائي هذه المرة على يد زوجها، وهنا يترك الكاتب لقارئه تلك الفراغات النصية ليكملها في شأن افتضاح هذه العلاقة بين المرأة والشاب الثلاثيني، غير أن محاولة الصراخ هذه المرة لم تنجح بعد أن يهيمن الهمس على فضاء القصة في موازاة رهيفة وذكية بين ما عاشته وما آلت إليه، فالهمس مشترك بين حياتها المقموعة وموتها المأسوي، وتتواتر مفردة «همس» في القصة مرات عدة، من دون أن تضيف في بعضها معنى جديداً، ويبدو أن رغبة الكاتب في التأكيد على تيمته، ورؤيته دفعته لاستخدامات مجانية لها أحياناً. في «إعلان موت شخص يدعى صديقي» ثمة إحساس عارم بالوحدة، فالسارد/ البطل يعلن على نحو دال: وفي جملة موجزة تعد استهلالاً سردياً بديعاً للقصة: «مات صديقي...»، وبما يذكرنا ببدايات نصوص الكاتب الفذ الراحل محمد البساطي القصصية، والذي يهدي إليه القاص خالد عاشور مجموعته القصصية الأولى، ثم نرى انتقالاً من الحكي بضمير المتكلم إلى الحكي بضمير المخاطب عبر تفعيل أكبر لدور السارد الرئيسي في القصة: «ها أنت ذا عدت إلى الوحدة بلا أصدقاء، تمشي بلا هدف كالتائه، فأين تذهب ولم يعد أحد يهتم بك». يتواتر نداء صبي سائق الميكروباص الذي يستقله السارد البطل: «إمبابة وحدة... وحدة وحدة... نفر إمبابة وحدة». يبدو التقسيم المقطعي دالاً في قصة «الإمام»، وتذكر اللحظات الفائتة من عمر الشيخ الصاعد إلى المنبر كاشفاً. ففي كل درجة يصعدها الشيخ من درجات المنبر ثمة جزء غاطس من حياته، مسكوت عنه يخبرنا به السارد الرئيسي، حتى إذا وصل إلى نهاية المنبر، واستوى جالساً، ثم وقف ممسكاً بالميكروفون وفق توصيفات بصرية ذكية من لدن الكاتب هنا، إذا هو يعلن للناس بصوت مرتعد: «اتقوا ربكم»، وكأنه صوت آخر يأتي من مكان مجهول. تتواتر تيمة الانتظار في قصتي «انتظار»، و»طفلة»، من دون أن يصدر الكاتب أية إدانات أخلاقية أو أحكام قيمية صوب شخوصه، متعاطياً معهم على نحو إنساني دال ورهيف، فالطفلة التي كانت تلهو معهم في أعواد الذرة قديماً، قد غابت في ما بعد، وانتظروها طويلاً، ولم تعد إلا وقد صارت سيدة تقود طفلين يمسكان بذيل جلبابها، وحينما تُذكر السارد بالأيام الفائتة، تعلن له أنها ستنتظره من جديد، لكن ليس في أعواد الذرة هذه المرة. في «الخالة قمر»، ثمة موازاة بين الفرح والمأساة، وبما يخلق تلك الدهشة الممزوجة بالأسى، والتقاطعات بين البهجة العابرة والحزن المقيم، لنصبح أمام عالم بديع، يتوازى فيه زواج السارد/ البطل مع موت الخالة قمر، التي ظلت لسنوات طويلة تصل لعمره تقريباً تخبره بأنها ستتزوج لا محالة برغم تسرب العمر وضياعه. يتوازى الخاص مع العام في «عصفوران»، ويتجادل الذاتي مع الموضوعي، فمرض الأب بالفشل الكلوي وسرطان المثانة مرده في النص والواقع معاً إلى سنوات من الإهمال وتدمير المقدرات الحياتية للبشر. وتتسرب مساحات أوسع من السياسي في قصص أخرى داخل المجموعة، من قبيل قصة «الخبر»، وبما ساهم في خنق الدلالات الفسيحة للنص، ووقوعه في فخ المباشرة، وبدت اللغة هنا تقريرية للغاية، وعلى نحو ما نرى أيضاً في قصة «الرئيس»... «قامت الثورة فعفا عنه النظام الجديد – والذي كان تابعاً للقديم كلياً- مع من عفوا عنهم من التنظيمات المعارضة» (ص 83). تقدم «قهوة والي» مقطعاً من حياة الشخصية المركزية داخلها «طارق»، صبي المقهى الذي ينادي الكل بلقب «باشا»، حتى يحظى به أثناء ركوبه الميكروباص الذي ينقله إلى بيته! يُدخِل الاستهلال السردي في قصة «غرفة سلمى» المتلقي في متن النص مباشرة: «الداخل إلى حارة محروس عفيفي سيجد أنها تضيق حتى تنتهي ببيت قديم. البيت من أربعة أدوار. بكل دور خمس غرف. في كل غرفة تعيش عائلة» (109). هنا نرى وعياً بسيكولوجية الشخوص داخل القصة، وقدرة على تضفير الحوارات السردية في متن القص. وتبدو النهاية ابنة للروح الشعبية المصرية حيث يتعاطف «الحاج عبدالله» – صاحب البيت- مع «سلمى» التي فقدت كل شيء ولم يعد لها سوى الغرفة الصغيرة، وعلى رغم لسانها الحاد، وتصرفاتها اللامنطقية، إلا أنه كان قد أدرك ضعفها بحق، فخلع اللافتة التي علقها من قبل على غرفتها البائسة: «للإيجار»، وألقاها على الأرض، ودهسها بقدميه. وتنتهي المجموعة بقصة دالة «حرية»، بحثاً عن فضاء وسيع يحوي الذات الساردة وأحلامها المهدرة. وبعد... تبدو «همس» مشغولة بما هو إنساني وحر، يتجادل فيها الذاتي مع الموضوعي، وتنحو صوب تعرية مساحات معتمة في الروح وفي السياق العام، والكشف عن مناطق أخرى من الثراء الإنساني.