كان الفوز المفاجئ الذي حققه أنصار «الخروج» في استفتاء 23 حزيران (يونيو) حول عضويّة بريطانيا في الاتّحاد الأوروبي، بمثابة إعصار اجتاح المشهد السياسي في البلاد. ولعلّ الأسابيع الثلاثة التالية للتصويت كانت من أكثر المراحل اضطراباً في تاريخ بريطانيا السياسي المعاصر. كانت نتيجة الاستفتاء حاسمة، وإن جاءت نسبتا التصويت متقاربتين، بعد أن نال مناصرو الخروج 51.9 في المئة من الأصوات – أي 17.41 مليون صوت – ومناصرو البقاء 48.1 في المئة من الأصوات، أي 16.14 مليون صوت، لينقسم الناخبون البريطانيون بالتالي مناصفةً تقريباً. وعقب انتصار مناصري خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان الغموض كبيراً وتفاوتت الآراء حول ما ستكون عليه التداعيات، لأنّ أيّاً من أعضاء الحكومة أو من مناصري الخروج لم يعدّ خطّة تترقّب الخطوات اللازم اتخاذها في حال فوز الفريق المناصر لخروج بريطانيا من الاتحاد. هكذا، تلت الاستفتاء سلسلة من الصدمات السياسية، أولاها استقالة ديفيد كامرون بعد ساعات قليلة من اتّضاح نتائج الاستفتاء. في الأيام التالية، أعلن خمسة مرشحين مشاركتهم في انتخابات زعامة الحزب، وبعد جولتي تصويت في مجلس النواب، انحسر العدد إلى مرشحتين، هما وزيرة الداخلية تيريزا ماي ووزيرة الطاقة أندريا ليدسوم. كان من المفترض أن يدلي 150 ألف عضو من حزب المحافظين بأصواتهم في جولة اقتراع نهائية، على أن تُعلَن النتائج في 9 أيلول (سبتمبر) المقبل، لكنّ ليدسوم أعلنت انسحابها، لتكون ماي المرشّحة الباقية الوحيدة. وساد ارتياح واسع النطاق إزاء انسحاب ليدسوم كونه سمح للمحافظين بتوفير عناء انتظار تسعة أسابيع إضافية وسط أجواء من الغموض. وفي 13 تموز (يوليو)، تسلّمت تيريزا ماي مقاليد القيادة رسمياً من كامرون بصفتها زعيمة حزب المحافظين ورئيسة مجلس الوزراء. بيد أنّ مناصري خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أظهروا تشكيكهم في ماي، وارتأوا أنّه من الضروري أن يكون رئيس الوزراء الجديد مؤيّداً لخروج بريطانيا، علماً أنّ ماي صوّتت لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، مع أنها لم تنظّم حملة ناشطة للدفاع عن رأيها هذا خلال حملة الاستفتاء. ويبدو أن ماي هدّأت المخاوف التي اعترت مناصري خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أساساً. وقالت في هذا الشأن: «إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو خروج فعليّ، وسنحقّقه بنجاح». وعلى خلفية ذلك عمدت إلى تعيين مناهضَين مخضرمين وقديمين لعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي في منصبيين حساسين في مجلس الوزراء. الأول هو ديفيد ديفيس في منصب وزير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي أنشئ أخيراً، كي يشرف على عمليّة انسحاب بريطانيا. والثاني الدكتور ليام فوكس الذي تسلّم حقيبة التجارة الدولية الحديثة الإنشاء بدورها. وكان فوكس في السابق وزير دفاع مقرباً من المحافظين الجدد الأميركيين، وقد استقال قبل خمس سنوات عقب فضيحة. أمّا المفاجأة الكبرى في التغييرات التي أحدثتها ماي في الحكومة، فتمثّلت بتعيين النائب المحافظ المثير للجدل، رئيس بلدية لندن السابق بوريس جونسون، في منصب وزير الخارجيّة، علماً أنه لم يسبق له أن تبوأ أي منصب حكومي، مع أنّه كان رئيس بلدية منتخباً ناجحاً للندن على امتداد عهده الذي استمرّ سنتين. وهو من الشخصيّات البارزة المناصرة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقد شارك في رئاسة حملة التصويت للخروج بالتعاون مع وزير العدل مايكل غوف. وبفضل ما يتمتع به جونسون من شخصية مفعمة بالحياة وطاقة وكاريزما وروح فكاهة، ومع مظهر شعره الأشقر غير المصفّف، أدّى دوراً كبيراً في توجيه مناصري الخروج نحو النصر. لكنه سبق أن تبيّن في عدد من المناسبات أنه يحبّ الكذب، إلى جانب اعتياده توجيه ملاحظات مهينة إلى عدد من قادة العالم، ومن بينهم الرئيس الأميركي باراك أوباما. وستأمل ماي ألا يرتكب جونسون هفوات مماثلة في سياق الدور المحوري الجديد الذي يُطلَب منه أداؤه. خلال حملة الاستفتاء، غالباً ما زُعِم أنّ جونسون شنّ حملة مناصرة للخروج، ليس عن اقتناع سياسيّ كبير، بل لأنّ ذلك سيعزّز طموحه إلى تولّي رئاسة مجلس الوزراء. وبعدما أعلن كامرون استقالته، راح جونسون يعدّ حملته لتزعّم حزب المحافظين بدعم من غوف. لكن قبل ساعات قليلة من موعد إلقائه خطابه ليعلن فيه ذلك، انقلب غوف ضدّه، وأطلق تصريحاً علنيّاً قال فيه: «كنت أريد أن أساعد على بناء فريق يترأسه بوريس جونسون، كي يتسنّى لسياسيّ أطلق حججاً لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي توجيهنا نحو مستقبل أفضل. لكنّي توصّلت على مضض إلى استنتاج، وهو أنّ بوريس يعجز عن توفير القيادة اللازمة أو بناء فريق قادر على تولّي المهمّة التي تنتظرنا». وكشف غوف بعدها أنّه سيكون مرشّحاً. وهكذا، وبعد تعرّض جونسون لخيانة غوف، أعلن عدم ترشّحه لقيادة الحزب لتكون ظاهريّاً نهاية آمال جونسون بتولّي أيّ منصب سياسيّ رفيع المقام في المستقبل القريب. وساد ذهول واسع النطاق عندما عيّنته ماي في منصب وزير خارجيّة في حكومتها، إلى جانب تسريحها غوف من منصب وزير العدل الذي كان يتولاه في الحكومة. ومع أنّ ماي طمأنت أنصار الخروج بالقول «إنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو خروج فعلي»، وإنها ستضمن إنجاح العمليّة بصفتها رئيسة لمجلس الوزراء، فإنّ أحداً لا يعرف ما يعنيه هذا الخروج فعلاً. والآن، يواجهها سؤال بالغ الأهمّية حول موعد تطبيق المملكة المتحدة المادة 50، وبند معاهدة لشبونة الذي يشكّل نقطة انطلاق للمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، والذي ينبغي تطبيقه في غضون سنتين. ولفت ديفيد ديفيس بعد تعيينه وزير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى أنّ العمل بالمادة 50 يجب أن «يبدأ قبل السنة المقبلة أو في مطلعها». مستقبل غامض لا يزال مستقبل علاقة المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا منه غامضاً. وفي الوقت الراهن، وبصفتها عضواً في الاتحاد الأوروبي، تشكّل بريطانيا جزءاً من سوق الخمس مئة مليون نسمة الموحّد الذي تصدّر إليه نحو نصف منتجاتها وخدماتها. لكنّ العضوية في السوق الموحّد تشمل أيضاً حرّية تنقّل الناس. ومع توسيع نطاق الاتحاد الأوروبي، يحق لعدد متزايد من الناس الانتقال إلى المملكة المتّحدة. ولم ينجح كامرون في تحقيق هدفه المتمثل بالحد من أعداد المنتقلين للعيش في بلاده إلى عشرات الآلاف في السنة الواحدة، مع الإشارة إلى أنّه خلال السنة الماضية وحدها، ارتفع عدد المنتقلين للعيش في المملكة المتحدة إلى 333 ألفاً، بينهم 184 ألف مهاجر من الاتحاد الأوروبي. وكان أحد أهمّ شعارات حملة مناصري الخروج «استعادة السيطرة» على حدود بريطانيا. فهل تنجح البلاد، خلال مفاوضات الخروج من الاتحاد، في التوصل إلى اتفاق مع الأخير يكون شبيهاً باتفاق النروج ويسمح بالنفاذ إلى السوق الموحّد مع منح الناس بعض حرّية التنقّل؟ سيكون هذا أمراً غير مقبول في نظر عدد كبير من مناصري خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كونهم يعترضون على منح أي حرية تنقل على الإطلاق. يحمل الغموض الكبير في شأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تداعيات على الاقتصاد. وخلال حملة الاستفتاء، دأب مناصرو البقاء على إطلاق تحذيرات للمؤسسات الدولية في شأن الأخطار الاقتصادية والتجارية المرتقَبة. لكنّ جونسون وغوف قللا من شأنها، باعتبارها جزءاً من «مشروع بث الخوف» الذي أطلقه كامرون ووزير المال في عهده جورج أوزبورن. وتجاهل جونسون وغوف آراء «الخبراء». واتُهم المصوّتون لخروج بريطانيا من الاتحاد باختلاق الأكاذيب. وعلى سبيل المثال، كُتِبَ على أحد جانبَي «حافلة المعركة» التي استعملها جونسون وغوف للتنقّل في أرجاء المملكة المتحدة خلال حملتهما الشعار التالي: «نحن نرسل 350 مليون جنيه إسترليني أسبوعياً إلى الاتحاد الأوروبي. بدلاً من ذلك، دعونا ننفق هذا المبلغ على خدمة الرعاية الصحية الوطنية». لكنّ الواقع يشير إلى أن الرقم الفعلي يساوي نحو نصف الرقم المذكور، وممّا لا شك فيه أن الأموال المدخرة جراء عدم سداد المال للاتحاد الأوروبي لن تذهب كلّها إلى خدمة الرعاية الصحية. هوت قيمة الجنيه مقابل الدولار بعد الاستفتاء، وبلغت في بعض الأحيان أدنى مستوياتها منذ 31 عاماً، ما سيتسبّب بزيادة كلفة الواردات، مع أنه سيساعد أيضاً المصدّرين البريطانيين. ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيتقلص حجم النمو الاقتصادي في المملكة المتحدة، أقله على الأمد القصير، مع تسجيل خطر ركود نسبي. وقرّرت شركات كثيرة تعليق مشاريعها الاستثمارية، ناهيك عن تباطؤ سوق العقارات في لندن وجنوب شرقي إنكلتراً عموماً، وعن ورود تقارير بتراجع الأسعار فيه. التحدّيات والتداعيات ليس التدهور الاقتصادي بنتيجة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوى أحد التحدّيات الكثيرة التي تواجهها ماي مع تسلّمها منصب رئيسة مجلس الوزراء. والحال أنّ المحافظين يتمتعون بأكثرية 12 مقعداً فقط في مجلس العموم البريطاني، ما قد يصعّب عليها الحصول على موافقة برلمانية على القانون المقترح. ويتمثّل تحدِّ آخر بالسؤال عما إذا كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيؤدي إلى تشتّت المملكة المتحدة في نهاية المطاف، خصوصاً أنّ اسكتلندا وإرلندا الشماليّة صوّتتا لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، مع احتمال أن تنظّم اسكتلندا استفتاءً جديداً حول الاستقلال بعد الذي نظّمته في العام 2014. وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ستتحوّل الحدود الشماليّة مع إرلندا الشماليّة إلى حدود برّية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتّحدة. فهل ستتفاقم الضغوط لإنشاء جزيرة إرلندا الموّحدة؟ وكان أحد أسوأ تداعيات الاستفتاء بزيادة كبيرة في الجرائم النابعة عن الكراهية، والهجمات، والتعليقات النابية التي لم تطل مواطني الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة فحسب، إنّما المهاجرين عموماً. وشكّلت مسألة الهجرة محور تركيز في حملة مناصري الخروج، وكان من بين شعاراتها «فلنستعد بلادنا»، و»لنستعد السيطرة»، علماً أنّ حزب استقلال المملكة المتحدة وزعيمه نايجل فاراج تحديداً أجّجا مشاعر عدائيّة حيال المهاجرين. في الاتحاد الأوروبي ثلاثة ملايين مواطن يقيمون ويعملون حالياً في المملكة المتّحدة، ويشعرون بالقلق على مستقبلهم. وسبق أن دعاهم عدد كبير من السياسيين البريطانيين للبقاء، لكنّ ماي تقول إنّ مستقبلهم يجب أن يشكّل جزءاً من المفاوضات التي ستجريها بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي للخروج منه، شأنه شأن مستقبل وضع حوالى مليوني مواطن بريطاني في دول أوروبية أخرى. يشعر عدد من مناصري البقاء بالإحباط مع اكتساب الخطوات نحو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي زخماً. وفي 8 تموز (يوليو) الماضي، انطلقت صحيفة أسبوعية جديدة اسمها «ذا نيو يوروبيان»، تصف نفسها بأنها «الصحيفة الجديدة التي صدرت فجأة لتعكس آراء 48 في المئة» صوّتوا لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي. ووردت على صفحتها الأولى اقتباسات من مقالة بقلم الصحافي جوناثان فريدلاند من بينها: «ظهر موطنان، والشرخ أكبر من أن يُردَم». في 2 تموز، شارك نحو 50 ألف شخص في «المسيرة لأجل أوروبا» التي امتدّت من لندن إلى ساحة البرلمان مطالبين بالبقاء داخل الاتحاد الأوروبي. ومن المزمَع أن تنظَّم مسيرات أخرى من هذا القبيل. هل يُحتمل تنظيم استفتاء ثانٍ؟ في 5 أيلول، سيناقش مجلس العموم (البرلمان) عريضة إلكترونية تطالب بإجراء استفتاء جديد حول العضوية في الاتحاد الأوروبي. وكانت العريضة المذكورة قد انطلقت في 25 أيار (مايو) الماضي، وناشدت الحكومة تنفيذ حكم يفيد بأنه إذا كانت أصوات مناصري البقاء أو الرحيل أقل من 60 في المئة، فلا بد من إجراء استفتاء ثانٍ. وفي بريطانيا، تخضع أي عريضة تحصل على أكثر من 100 ألف توقيع للنقاش البرلماني، علماً أن العريضة في شأن استفتاء ثانٍ جمعت 4.1 مليون توقيع. لكنّ النقاش داخل البرلمان لن يغيّر واقع الأمور، لأنّ الذين وقّعوا العريضة تلقوا رسالة تفيد بأن رئيسة الوزراء أوضحت أنّ الاستفتاء كان «تصويتاً يُجرى مرّة في الجيل الواحد» وأن قرار الاستفتاء يجب أن يُحتَرَم. وفي تطوّر مستقل، منح المدّعي العام المحافظ السابق دومينيك غريف، الذي يناصر بقاء بريطانيا داخل الاتحاد، بعض الأمل لفريقه عندما قال إنّ استفتاءً ثانياً قد يجرى في المستقبل، «إذا تبيّن مع مرور الوقت أنّ الرأي العام تغيّر حول المسألة». وفي السياق نفسه، تلقّى ديفيد كامرون رسالة وقّعها أكثر من ألف محامٍ قبل تنحّيه عن منصبه، مفادها أن نتيجة الاستفتاء الأوروبية كانت «استشاريّة» أكثر من كونها تحمل تداعيات قانونيّة. وبرروا ذلك بأنّ إنفاذ المادة 50 سيتطلّب تصويتاً برلمانيّاً وسنّ قانون جديد. ويعود أحد أسباب تبريرهم هذا إلى «وجود دليل على أنّ نتيجة الاستفتاء تأثّرت بسوء تصوير الوقائع ووعود يتعذّر الوفاء بها. وبما أنّ النتيجة لمصلحة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي جاءت بهامش ضئيل»، كان لسوء التصوير والوعود دور حاسم أو مساهم في النتيجة. لكنّ مناصرين آخرين لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد يقولون إنّه بغضّ النظر عن مدى امتعاضهم من فوز مناصري الخروج، لا بدّ من احترام الإرادة الديموقراطية التي أعرب عنها الشعب في الاستفتاء، وحذّروا من أنّ أي محاولة قلب للنتائج لن تكون ديموقراطيّة، وقد تنجم عنها أعمال عنف. * صحافية بريطانية