حملة الاستفتاء حول البقاء في الاتحاد الأوروبي أو الخروج منه تُسبِّب حالاً من الفوضى السياسية في بريطانيا، وهي تتفاقم مع اقتراب موعد 23 حزيران (يونيو) المفترض أن يجرى خلاله هذا الاستفتاء، فتزداد حدّة الانقسامات وتشتدّ المرارة بين المؤيدين والمعارضين. والحال أن نتيجة الاستفتاء ستؤثر في مستقبل المملكة المتحدة لسنوات قادمة. ففي حال صوّتت بريطانيا، خامس أكبر اقتصاد في العالم، على الخروج من الاتحاد الأوروبي، ستبدأ عملية طلاق طويلة ومعقّدة. أما التداعيات على المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وباقي دول العالم فستكون وخيمة ولا تحصى: الانسحاب هو خطوة نحو المجهول، إلا أن العديد من المواطنين يشعرون بأنهم غير مزودين بحقائق كافية لاتخاذ القرار المناسب. هناك ما يشبه حرباً أهلية في صفوف المحافظين، فمن جهة، معسكر مؤيدي البقاء في الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم رئيس الوزراء ديفيد كامرون ووزير المالية جورج أوزبورن. ومن جهة أخرى، معسكر مؤيدي الخروج من الاتحاد وعلى رأسهم بوريس جونسون، ووزير العدل مايكل غوف. وتسود الشكوك بأن جونسون يستخدم حملة الاستفتاء لتعزيز فرصه بالوصول إلى مركز متقدّم بين المحافظين وربما إلى رئاسة الوزراء. ويشير أحدث استطلاعات الرأي حول الموضوع إلى أن المعسكرين متعادلان تقريباً، مع تقدّم طفيف لمعسكر البقاء في الاتحاد. إلا أنه ثمة معطيات تشير إلى تقدم المعسكر الآخر قليلاً. والجدير ذكره أن كثيرين يطلقون على بوريس جونسون لقب «دونالد ترامب بريطانيا»، حتى أن الشبه بينهما جسدي أحياناً. فهو متحدّث لبق ومقنع، يجتذب انتباه السامعين، وإن كان حديثه في غالبية الأحيان غير متجانس. على سبيل المثل، كان يدافع سابقاً عن علاوات المسؤولين المصرفيين المرتفعة داعياً الحكومة إلى التوقُّف عن مهاجمة هؤلاء. إلا أنه اليوم وغوف يعيدان تحديد نفسيهما على أنهما شعبويان، ما أثار إعجاب الناخبين الغاضبين من النخبة السياسية والمالية التي كانا ينتميان إليها. ويعلن معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي ما يلي: «فلنستعد السيطرة من جديد، السيطرة على مالنا واقتصادنا وحدودنا وأمننا وضرائبنا» من خلال الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ويَعِد المعسكر بمستقبل زاهر خارج الاتحاد الأوروبي، مع حرية عقد صفقات تجارية جديدة، إلا أنه لا يزال عاجزاً عن تحديد التفاصيل. أساء جونسون إلى الاتحاد الأوروبي عندما ادعى بأنه يهدف إلى إرساء «دولة عظمى» أوروبية على غرار ما سعى إليه هتلر. وأتى هذا الادعاء على رغم الاتفاق الذي توصل إليه كامرون إثر مفاوضات طويلة في بروكسيل في شباط (فبراير) مع قادة الاتحاد الأوروبي والذي عزز «وضع بريطانيا» الخاص داخل الاتحاد. وورد في الاتفاق ما يلي: «من المعترف به أن المملكة المتحدة... غير ملزمة بأي اندماج سياسي إضافي في الاتحاد الأوروبي... فالإشارات إلى تعزيز الروابط داخل الاتحاد لا تنطبق على المملكة المتحدة.» ويشدد كامرون وأوزبورن على الثمن الذي ستدفعه المملكة المتحدة في حال خرجت من الاتحاد الأوروبي ومن سوقها الموحّدة التي تضم 500 مليون شخص والتي تستقبل نصف الصادرات البريطانية تقريباً. وثمة مخاوف كثيرة من احتمال أن تخرج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وقد حذّر العديد من المؤسسات المالية ومؤسسات البحوث والخبراء المشهورين، الدوليين والبريطانيين، ومن مختلف المجالات، من الأخطار الاقتصادية التي قد تترتب على هذا الخروج. وأشار استطلاع للرأي، شمل 600 خبير اقتصادي رائد في المملكة المتحدة، إلى أن 9 من أصل 10 من هؤلاء الخبراء يعتقدون بأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والسوق الموحّدة سيلحق الضرر بإمكانات الاقتصاد البريطاني على النمو خلال السنوات الخمس التالية. إلا أن جونسون وغوف يتهمان معسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي بإرساء «مشروع تخويفي» ليصوّت الشعب لمصلحة البقاء في الاتحاد، كما أنهما يرفضان توقعات الخبراء، بحجة أنهم أخطأوا في الماضي، بالتالي لا سبب لهما لتصديقهم اليوم. ويقولان أن المؤسسات هي جزء من النخبة، في حين يتوجه معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى «العامل العادي». عندما وعد كامرون في مانيفستو المحافظين للانتخابات العامة عام 2015 بأنه سيجري استفتاءً حول العضوية في الاتحاد الأوروبي، كان يحاول منع الناخبين المحافظين والسياسيين من التوجه إلى الجناح الأيمن الشعبوي الذي تزداد شعبيته: حزب الاستقلال البريطاني. أما سياسات حزب الاستقلال الأساسية فهي محاولة إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لضبط الهجرة. واليوم، يبدو أن جونسون وغوف يسلكان الطريق عينها. فعندما أعلنا خطتهما لإدخال نظام الهجرة بالنقاط على غرار النموذج الأسترالي، بعد الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، غرّد رئيس حزب الاستقلال نايجل فراج على تويتر قائلاً: «يسرّني أن يدعم بوريس جونسون ومايكل غوف اليوم السياسة عينها التي أناضل من أجلها منذ سنوات.» وكان فراج في صدد العديد من التعليقات التحريضية، معتبراً أنه في حال لم تضبط الهجرة، وفي حال شعر الناس بأن الاستفتاء لم يغيّر شيئاً سيكون «العنف هو الخطوة التالية». كما حذر بأنه في حال بقيت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي ستكون النساء عرضةً لخطر التحرش الجنسي الجماعي، كما حصل مع مئات من النساء الألمانيات في كولن عشية عيد رأس السنة. إشارة إلى أن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي والسوق الموحدة تعني السماح بتنقل الأشخاص الحرّ من أي دولة من الاتحاد. ويشدد معسكر الخروج من الاتحاد الأوروبي على أخطار الهجرة الجماعية. وكان كامرون تعهّد في منيفيستو الانتخابات العامة في 2010 وفي 2015 بأن يقلص عدد المهاجرين إلى مئة ألف أو أقل في غضون سنة، إلا أن هذا الهدف لم يتحقق إطلاقاً، فقد بلغ عدد المهاجرين إلى بريطانيا 330 ألفاً في العام المنصرم، أي بارتفاع قدره 20 ألفاً مقارنةً ب2014. وقد أتى 184 ألفاً من هؤلاء المهاجرين من الاتحاد الأوروبي، لكن الرقم الأكبر أتى من دول خارج الاتحاد الأوروبي بما فيها الهند وباكستان. تحتاج بريطانيا إلى عدد كبير من المهاجرين لوظائف عدة، على سبيل المثل في قطاعي الصحة والرعاية الصحية. وما من ضمانة بأنه في حال خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ولم يعد لسكان هذا الأخير حرية التنقل إلى بريطانيا، سينحسر عدد المهاجرين في شكل ملحوظ. وأفاد مايكل غوف بأن تركيا، التي تعدّ 76 مليون نسمة، بالإضافة إلى أربع دول أخرى، هي ألبانيا ومقدونيا ومونتينيغرو وصربيا، ستنضم إلى الاتحاد الأوروبي بحلول العام 2020. ومن شأن هذه الخطوة أن تؤدي إلى زيادة 5.2 مليون نسمة يدخلون إلى بريطانيا في 2020، الأمر الذي سيفشل نظام الرعاية الصحية. ويقول معسكر الخروج من الاتحاد بانه «لا يمكن الوثوق بديفيد كامرون حول الموقف من تركيا». وردّ كامرون بأن تركيا تقدّمت بطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في العام 1987، إلا أن المفاوضات بطيئة جداً، وبهذه الوتيرة من التقدُّم ستنضم في العام 3000! وعلى أي حال، أشار كامرون بأنه يمكن لبريطانيا، أو أي دولة من الاتحاد الأوروبي، الاعتراض على انضمام تركيا إلى الاتحاد. ويتصرف جونسون وغوف وكأنهما حكومة داخل حكومة، يطلقان وعوداً لا يمكنهما الوفاء بها في حال خرجت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. كما أنهما متهمان بالإدلاء بتصريحات مضللة، لا سيما ما يتعلّق بادعاء أن بريطانيا ترسل 350 مليون جنيه استرليني أسبوعياً، أي 50 مليون جنيه استرليني يومياً إلى الاتحاد الأوروبي. بالإضافة، فهما يعِدان بضخّ المال الذي سيتم توفيره من خلال الخروج من الاتحاد الأوروبي إلى خدمات الرعاية الصحية. إلا أن رقم 350 مليون جنيه استرليني مضلّل فهو لا يأخذ في الاعتبار أن المملكة المتحدة تحصل على خصم من الاتحاد الأوروبي، كما تحصل على مساعدات منه في مجال الزراعة والتنمية الإقليمية والبحوث العلمية وغيرها. ويبقى الرقم الحقيقي حوالى 180 مليوناً أو أقلّ. ومن ضمن الوعود التي أطلقاها أيضاً إلغاء الضريبة المضافة على الفيول وإيجاد 300 ألف وظيفة. أما تركيز وسائل الإعلام على «الحرب الأهلية» التي يشنها المحافظون على الاستفتاء فهو محبط بالنسبة إلى الأحزاب السياسية الأخرى، على غرار حزب العمال الذي يدعم معسكر البقاء في الاتحاد ولكن لأسباب مختلفة عن أسباب كامرون وأوزبورن. وقال كاميرون في هذا الإطار، «نعتقد بأن الاتحاد الأوروبي أتى بالاستثمارات وفرص العمل وحماية العمال والمستهلكين والبيئة». وبالإضافة، تقدّم العضوية في الاتحاد الأوروبي «سبيلاً أساسياً لمواجهة تحديات القرن ال21 حول التغيُّر المناخي وكبح قوة الشركات العالمية والتأكد من أنها تسدّد ضرائب عادلة، ومواجهة الإرهاب والجريمة على الانترنت، والتأكد من أن التبادل التجاري عادل مع حماية العمال والمستهلكين ومواجهة حركة اللاجئين». على المملكة المتحدة أن تبقى في الاتحاد الأوروبي وأن تصلحه. لذلك، بدأت نقابات العمال التجمع لدعم معسكر البقاء بغالبيتها، وقد أصدرت كتاباً مشتركاً دعت فيه ناخبيها الذين يبلغ عددهم 6 ملايين نسمة إلى التصويت للبقاء في الاتحاد الأوروبي لأن الخروج منه يهدد حقوق العمال. ومن غير المرجح أن يصطف زعيم حزب العمال جيرمي كوربين إلى جانب كامرون، إلا أن العديد من سياسيي الحزب يعتبرون من الأهمية بمكان دعم البقاء في الاتحاد الأوروبي، إلى درجة أنهم مستعدون للتعاون مع حملة المحافظين. وقد ظهر العمالي صادق خان، وهو عمدة لندن الذي تم انتخابه مؤخراً، والمسلم الأول الذي يتبوأ مثل هذا المنصب، خلال حملة ترويج عامة مع كامرون لدعم معسكر البقاء في الاتحاد الأوروبي. وقد حضر الحفلة إلى جانب كامرون هارييت هارمان، الزعيمة السابقة لحزب العمال، وتيم فارون، زعيم الحزب الليبرالي الديموقراطي، وناتالي بينيت، زعيمة حزب الخضر. وقالوا إن رفض الخروج من الاتحاد الأوروبي في انتظار خطة اقتصادية للانسحاب إنما هو عمل «مشين وغير ديموقراطي». * صحافية بريطانية