يمكن القول إن مقاطعة المبدعين السودانيين للاجهزة الاعلامية باتت ظاهرة ولعلها في طريقها لأن تتبلور أكثر فأكثر في المشهد الفني السوداني؛ فمنذ يومين فقط اوشك الممثل والمخرج مكي سنادة علي مقاطعة الاذاعة لأنها لم تحسن تقويم سنين عمله الطويلة (بدأ العمل 1963) وقدم خطاباً بهذا المعنى لمكتب مدير الاذاعة إلا ان المدير معتصم فضل زاره في منزله عقب ساعات من تسلمه الخطاب وحمله على العودة مرة أخرى. سنادة، الاسم الاشهر في الساحة المسرحية السودانية، كان قطع علاقته بالمسرح «في كل مستوياته» منذ سنتين، وذلك بعد أكثر من نصف قرن امضاه في خدمة المسرح والثقافة، قدم خلاله عشرات المسرحيات ممثلاً ومخرجاً ومصمماً للديكور، علاوة على ادارته المسرح القومي! وجاءت مقاطعته المسرح بعد ما صادفه من عنت في مشروع قدمه لوزارة الثقافة لإعادة عرض مسرحياته التي كان قدمها في السبعينات وذلك لتوثيقها واطلاع الاجيال الجديدة عليها. لكن، يقول سنادة «العراقيل وضعت امامي». ولم يتمكن من انجاز مبتغاه فقرر الابتعاد عن المسرح نهائياً. ولم تنفع المبادرات التي بذلها بعضهم لارجاعه، اذ ظل ملحاً على مقاطعته إلى الوقت الراهن. ثمة مسرحي آخر، وهو قريب جداً من مكي سنادة، ولكنه سبقه إلى المقاطعة، وهو هاشم صديق، مؤلف مسرحية «نبتة حبيتي» التي اخرجها سنادة مطلع السبعينات، وكانت تجربة فارقة في مسار الاثنين. صدّيق، وهو شاعر وناقد ايضاً، انهى الاسبوع الماضي مقاطعته التلفزيون والاذاعة، وظهر على شاشة «النيل الازرق» بعد 17 سنة امضاها معتزلاً في داره. وتعود مقاطعة شاعر «الملحمة» للاجهزة الاعلامية الرسمية إلى بداية التسعينات، فلقد ضاق «شاعر القضية»، كما سمته المذيعة التي حاورته، بالتضييق السياسي الذي مورس عليه اثناء عمله في التلفزيون في تلك الفترة، خصوصاً ما كان يثار حول برنامجه «دراما 90» من قبل بعض الموظفين. كان صدّيق أخذ موقفاً مختلفاً في البداية ولم يساير اولئك المبدعين الذين قاطعوا الاجهزة الاعلامية مع بداية حكم «الانقاذ» باعتبارها مؤسسات تخص السلطة، اذ كان يرى ان الاذاعة والتلفزيون والمسرح مؤسسات للشعب السوداني وتبقى كذلك مهما تبدلت الانظمة وظل يسهم بنشاط في تلك السنوات التي غاب فيها العديد من الاسماء الابداعية عن المنابر العامة و بالانكفاء والعزلة أو بالهجرة إلى اوروبا ودول الخليج. لكنه ما لبث ان صُدم بواقع مختلف وانتهى إلى عزلة طويلة لم يظهر بعدها إلا اخيراً! ويبدو ان صدّيق، الذي نفى مراراً ان يكون منتمياً لأي حزب سياسي (كان يُنظر اليه كشيوعي) لمس تغييراً ما في المشهد السياسي لذلك قرر العودة وحده، اي من دون مبادرة من جهة ما، وعبّر عن حزنه وغبنه الشديدين لانقطاعه عن جمهوره كل تلك السنوات! المطرب أبو عركي البخيت سبق صدّيق في المقاطعة وسبق لهما ان التقيا في العديد من الاغنيات الراسخة في وجدان محبي الغناء العاطفي والوطني والسياسي. ويؤرخ بعضهم لسيرة مقاطعة البخيت للاجهزة الاعلامية، ومنها الصحف، ب «اواخر الثمانينات»، وعلى كثرة الدعوات المنادية بعودته إلا ان ابو عركي بقي بعيداً، يقدم اغنياته على خشبات المسارح وفي مناسبات روابط الشباب والطلاب في الجامعات وعلى الاسطوانات فقط ولا يتحدث إلى اجهزة الاعلام! لكن النموذج الأكثر رسوخاً وسط المبدعين المقاطعين للاجهزة الاعلامية هو الشاعر محجوب شريف (شاعر الشعب السوداني) كما يلقب، وهو أكثر المبدعين تعرضاً للاعتقال السياسي منذ الستينات واكثرهم شعبية ومحبة وقد كتب عشرات القصائد الحية، باللغة العامية، وأثر في اجيال من محبي الغناء بكلمته الرقيقة وخياله الفنان وخصوصاً بأعماله «يا جميلة ومستحيلة» و «السنبلاية» و «في حضرة جلالك» علاوة على نصوص ديوانه «الاطفال والعساكر». يرى شريف، كما تقول المصادر، ان الظهور في الاجهزة الاعلامية، رسمية كانت أو اهلية في سائر البلدان العربية، يعطي انطباعاً خاطئاً بوجود حريات وديموقراطية، وهو لا يريد ان يزيف واقع المصادرة وغياب الديموقراطية بظهوره في الاجهزة الاعلامية. وعلى رغم ان بعضهم يحسبه على الحزب الشيوعي إلا ان شريف لم يظهر حتى عبر صحيفة «الميدان» التابعة للحزب، ولعقود لم يظهر شريف إلا عبر صحيفة طالبية في جامعة الخرطوم وفي حوار في برنامج «زمام المبادرة» على قناة «الجزيرة» ولم ينس حينها ان ينبه، في نهاية البرنامج، إلى انه: «لن يسعدني أبداً عندما تبث هذه الحلقة اذا كرست لشخص واحد... لن يسعدني ابداً اذا لم تجعل آلاف الناس بل ملايين الناس يسعون إلى خطوة مماثلة...»