صارع محمد استاي القادم من دولة النيجر إلى الجزائر، للبقاء هو وعائلته المهاجرة في فصول عدة من رحلة لجوء شاقة، حين قرر شدّ الرحال من بلدته وهو برجل واحدة، كونه فقد الأخرى في انفجار لغم زرعه مسلحون بقريته، ليجد نفسه في النهاية مستقراً في شمال الجزائر يقتات من مهنة التسوّل. وما انتهى إليه اللاجئ استاي من تسوّل في شوارع الجزائر العاصمة يشبه مئات الحالات الوافدة إلى الجزائر خلال السنوات القليلة الماضية، بعد نجاة أصحابها من الهلاك خلال رحلة الهجرة بين المنطقة الفاصلة بين ولاية تمنراست (جنوب) والنيجر وهي منطقة صحراء «تينيري» أو ما يعرف ب «الثقب الأسود»، التي باتت مسلكاً مهماً للمهاجرين الأفارقة غير الشرعيين ومهربي البشر، كونها من أصعب المناطق، لا سيما خلال فصل الصيف الذي التهم أرواح مئات الضحايا. صور مغايرة تقدّر أرقام غير رسمية عدد الأفارقة في الجزائر ب100 ألف شخص، يشتكي كثر منهم من تردّي الحالة المعيشية والخوف من أن تعتقلهم أجهزة الأمن تمهيداً لإعادتهم إلى بلادهم الأصلية. لكن لاجئين أفارقة فرّوا من الاضطرابات الأمنية سواء في مالي أو النيجر ونيجيريا والكاميرون والسنغال، نقلوا صوراً مغايرة عن اللاجئ التقليدي الذي يعيش في مراكز خاصة به أو ممن «يسألون الناس إلحافاً»، بعد أن عرفوا كيف يملأون الفراغ الكبير الذي خلّفه الشباب الجزائريون في امتهان أعمال تكاد تكون «منبوذة» في المجتمع المحلي. ففي محافظة ورقلة (جنوب) التي رُحّل منها حوالى ألف مهاجر أفريقي في آذار (مارس) الماضي على خلفية اندلاع مناوشات شهدتها المدينة عقب مقتل مواطن على أيدي نيجريين، كان ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية مرتبطاً بمدى تقدّم مشاريع الأشغال العامة والزراعة تحديداً، وبشهادة والي المحافظة الذي اعترف أن الرعايا الأفارقة يمثلون معادلة مهمة في سوق العمل وانسحابهم يعرّقل مشاريع تنموية، وهي حقيقة ينبغي أن يعرفها سكان المنطقة جميعاً، خصوصاً في فصل الصيف وفق تعبيره. وفي محافظة باتنة (شرق)، تطلّب إنجاز أشغال مساكن شعبية جمّد إشغالها منذ سنوات بسبب تأخّر أعمال التشطيب وتعبيد الطرق الممرات في ما بينها وتشجيرها وتجهيز فسحاتها الداخلية بألعاب الأطفال، الاستعانة بمياومين من المهاجرين الأفارقة، غالبيتهم من مالي. وفي تصريح إلى «الحياة، يعزو أستاذ علم اجتماع التربية في جامعة بسكرة شرف الدين شكري، تأقلم الأفارقة في سوق العمل «إلى عقلية الجزائري القابلة للاندماج مع مواطني بلدان وسلالات أخرى، الأفريقية أو العربية خصوصاً، نظراً إلى نقاط عدة مشتركة تاريخياً وجغرافياً». وعلى غرار السوريين أو الصينيين اكتسح اللاجئون الأفارقة ورش البناء والمشاريع الضخمة في الجزائر، كعمال أو مقاولين، نظراً إلى غياب اليد العاملة المحلية، وفق نائب رئيس المجلس الأعلى لأرباب العمل رئيس اتحاد المستثمرين في البناء، محمد الباي عبدالواحد، الذي أوضح أن هذه الجنسيات مجتمعة تكاد تسيطر على المشاريع الكبرى كلها، بعد أن سجل خلال معاينات ميدانية في ولايات عدة تذمّر مستثمرين أجانب من غياب اليد العاملة المؤهلة في الجزائر. لكن الاستعانة بالمهاجرين الأفارقة يتم دائماً في صورة غير قانونية، أي من دون تصريح عن العمال، وهو ما يبخسهم حقهم في الأجور، ويفوّت عليهم فرص الحصول على اللجوء في الجزائر الذي يكاد يكون أمراً شبه مستحيل، ليصبح غالبية القادمين في نظر القانون الجزائري مهاجرين غير شرعيين. عبودية بلغة الأرقام وتدق الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان ناقوس الخطر إزاء ما وصفته الاستغلال البشع الذي وصل إلى حد «العبودية» للأفارقة النازحين من قبل أرباب العمل والمقاولين. وطالبت السلطات بفتح تحقيقات معمّقة حول هذه لظاهرة، كاشفة بلغة الأرقام وجود 13 ألف عامل أفريقي غير شرعي لا يحصلون على حقوقهم من الحماية الاجتماعية. كما لا يخلو الأمر غالباً من مظاهر العنصرية والإقصاء وفق ما ذكر ناشطون في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان. فقد برزت في الأعوام الأخيرة حالات اعتداءات جسدية ولفظية بحق اللاجئين الأفارقة. وفي هذا الصدد، يقلل شكري من حدة الحالات المسجلة، موضحاً أن هناك «نوعاً من الدلال في تعاطي الجزائريين مع هؤلاء، حتى أن معاملة الشرطة لهم جدّ طيبة، بل إنّهم يتهرّبون من أسئلتها، وتراها تغض الطرف وتتركهم بحال سبيلهم من دون مضايقة». واستدرك شكري لافتاً إلى أن أحداثاً عابرة قد تقع و «هذا أمر طبيعي ناتج عن أي احتكاك، إذ إن المهاجرين الأفارقة لطالما شاركوا أيضاً في عمليات نصب واحتيال ودعارة وترويج عملة مزورة (...) ومن الطبيعي أن تتداخل مع المافيا الجزائرية في أمور كهذه». وفي محافظة تمنراست الحدودية مع ماليوالنيجر (2000 كلم جنوب العاصمة الجزائر) المحطة الأولى لأي مهاجر أفريقي، تسجل مصالح الأمن أرقاماً خطيرة تؤشّر إلى تورّطهم في ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة، على غرار التزوير وترويج المخدرات، علماً أن غالبية الرعايا الأجانب يقيمون بطريقة غير شرعية، على رغم ترحيل أكثر من ألفي شخص منهم العام الماضي إلى بلدانهم الأصلية. ولا يقتصر الهاجس على مزاولة أنشطة غير شرعية، إذ يشير الأمين العام لرابطة علماء دول الساحل ودعاتها وأئمتها (هيئة دينية مقرها الجزائر وتعد دول أفريقية عدة من أعضائها) الشيخ يوسف مشرية إلى أنه لا يُخفى على أحد «أن هؤلاء اللاجئين قد يؤثرون في عملية التلاقح في الأفكار الدينية، وقد تستغلهم شبكات تنشط في هذا الإطار نظراً لما تملكه من إمكانات مادية كبيرة».