أخذ رؤوف مسعد على عاتقه في روايته الجديدة «زهرة الصمت» (العين، القاهرة) أن يوجه تحية للشهداء الذين قتلوا، سواء في حوادث فتن طائفية أو موجات ثورية، في مصر. يبدأ صاحب رواية «بيضة النعامة»، من لحظة فارقة بالنسبة إلى الجماعة القبطية وهي دخول الجيش العربي إلى مصر، راصداً من زوايا عدة ما كانت عليه أحوال البلاد وقتئذ، لينتهي بثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011 ووقائع ارتبطت بها تخص الأقباط والمسلمين. يضعنا مسعد أمام شروط كتابة الرواية، إذ نجد أنفسنا أمام نص يخرج على غالبية الأعراف والتقاليد، ليصبح المحور الوحيد الثابت لديه هو الفكرة التي يُلح الكاتب على توكيدها، وكأن النص ليس سوى شواهد لإثبات تحقيق الفكرة. فضلاً عن أن الكاتب سعى بوضوح إلى نسف فكرة الوحدة العضوية للعمل، عبر تفتيت السرد وتضمينه نصوصاً من أعمال أخرى، في تجاور يوحي بتماسكها. ويمكن القول إن مسعد نجح في هذا الأمر، وإن كان على حساب النص نفسه وقدرته على استلاب القارئ لصالحه. تقوم الفكرة الأساسية لدى مسعد على أن التاريخ القبطي أو المسيحي بعامة، مليء بالشهداء، سواء قبل اعتماد المسيحية ديانة رسمية على يد الإمبراطور قسطنطين أو بعدها، بحيث كان عصر الشهداء الأول في زمن دقلديانوس، وكان اضطهاداً موجهاً من الرومان الوثنيين للمسيحيين في الإمبراطورية ككل. ثم جاء العصر الثاني الذي نشأ بعد ظهور الاختلافات المذهبية إثر انعقاد المجامع المسكونية الكبرى، والتي انتهت بقول الكنيسة القبطية بالطبيعة الواحدة للمسيح، بينما قالت الكنيسة اليعقوبية والنسطورية بأن له طبيعتين، وهو ما انحازت إليه روما وقررت إلزام الجميع به، ما خلق تصادماً أفضى إلى عصر الشهداء الثاني. تتوالى الفواصل التاريخية التي يتوقف أمامها مسعد ليوضح المحطات المهمة في تاريخ المسألة القبطية، وكيف عانى الأقباط من التضييق عليهم، لكنه في الوقت نفسه أوضح أن الأقباط أنفسهم لم يرحموا الوثنيين حين جعل قسطنطين المسيحية الدين الرسمي. ومثلما وضع المسلمون العقبات في وجه الأقباط ليتحولوا إلى الإسلام، فقد ضيَّق الأقباط على الوثنيين بمن فيهم أصحاب المعابد المصرية القديمة، حتى أنه مع مجيء العرب إلى مصر، لم تكن هناك لغة منتشرة سوى القبطية، ولا توجد ديانة قوية سوى المسيحية، أما المعابد المصرية والرومانية واليونانية، فقد انحسر دورها وقلَّ أتباعُها. وبدا جلياً أن مسعد كان منشغلاً بقضية التحول من المسيحية إلى الإسلام أو العكس، ومن ثم اخترع شخصية «النقادي»؛ المنتمي إلى «نقادة» التي كانت مركزاً حضارياً كبيراً في العهد الفرعوني، والتي أسلَمَ نصفُ أهلها، وظل نصفها الآخر على قبطيته حتى وقتنا الراهن. ويرث «لويس»، المولود لأب مسيحي، عن خاله «النقادي» هموم القبيلة المسلمة، والجماعة القبطية في الوقت ذاته. يفاجئنا ذلك في نهاية النص حين يرصد مسعد تداعيات ثورة كانون الثاني (يناير) وأثرها على الجميع، وتظهر لنا شخصية ضابط المخابرات المتقاعد يونس مراد الذي كوَّن مجموعة «الجنينة والشباك» لحماية مصالح الجماعة القبطية عبر التدريب على حمل السلاح. سعى مسعد إلى تقديم تحية للشهداء منذ عهد السيد المسيح وحتى أحداث ماسبيرو، خلال احتدام ثورة 2011 في مصر، والتي راح ضحيتها عدد من الأقباط أثناء تظاهرة أمام مبنى التلفزيون في القاهرة، مروراً بتخصيصه فقرات عدة للحديث عن الجزية وفتح عمرو ابن العاص لمصر، وموقف عبدالله بن مروان وعمر بن عبدالعزيز والحاكم بأمر الله من الأقباط. في السياق ذاته، يرفض مسعد، ما ذهب إليه المؤرخ شفيق غربال عن المعلم أو الجنرال يعقوب، باعتباره بطلاً قبطياً، إذ كوّن كتيبة للدفاع عن الأقباط الذين جمعهم في حي واحد وضرب حوله سوراً عالياً لحمايتهم، لكنه بهزيمة الفرنسيين لم يستطع البقاء في البلاد ففر معهم ليموت على سفينتهم بعد ستة أيام من خروجه من مصر. ولا نعرف سبباً لضرب مسعد هذه الأسطورة وإفسادها على عقول المؤمنين بها سوى أنه لا ينتمي إلى المذهب القبطي، وبرغم حديثه الدائم عن كونه مسيحياً علمانياً يقيم في أوروبا، إلا أن احتفاءه الدائم بالطقوس المسيحية، كالاعتراف والتناول والصلاة وغيرها، في أعماله الأدبية، يؤكد قوة حضورها في تكوينه الثقافي والنفسي. وهو ما يتنافى مع فكرة علمانيته، وإن كان لا يتنافى مع احتفائه بفكرة التحول سواء من ديانة إلى أخرى أو من مذهب إلى آخر، لكنه لا يحبذ فكرة التحلل من المسألة الدينية ككل. استخدم مسعد في «زهرة الصمت» العديد من التقنيات بدءاً من النصوص القديمة التي وجدها النقادي في درج مكتب قديم لديه، وصولاً إلى الشكاوى المرسلة إلى «السيدة زينب»، بوصفها «رئيسة الديوان»، في أذهان المتصوفة، والنصوص المختارة من روايته السابقة «مِزاج التماسيح»، وتلك التي اختارها من كتابي ألفريد بتلر؛ «فتح العرب لمصر»، وسيدة الكاشف؛ «مصر في فجر الإسلام»، بالإضافة إلى الهوامش الشارحة والفقرات المتضمنة من كتاب «متون الأهرام»، أو «الخروج إلى النهار». تسبَّب تجميعُ هذه النصوص في تفتيت السرد، في «رواية اللا رواية»، إذ أن القارئ تارة ما يجد نفسه أمام كتاب تاريخ، وأحياناً كتاب انثربولوجي، أو عمل روائي، لكنه لا يعرف من أين أتت شخصياته ولا إلى أين انتهت.