إن ازدياد ظاهرة العنوسة طردياً في المملكة أمر يدق ناقوس الخطر، فوفقاً لآخر إحصائية أصدرتها وزارة التخطيط السعودية، فإن عدد الفتيات اللواتي لم يتزوجن وتجاوزن سن الزواج المحدد اجتماعياً، بلغ أكثر من مليونين ونصف المليون فتاة، وهذا رقم ليس بالقليل، فأصبحت هناك حاجة ملِّحة لحث الشباب من الجنسين على الزواج بكل الطرق الميَّسرة والممكنة. حين عرضت إحدى الثريات السعوديات نفسها للزواج، اعترض الكثيرون على أسلوبها في عرض نفسها، ووصل الأمر إلى حد الاستهزاء والسخرية من بعض الكاتبات في الصحف، وهذا يعدّ جهلاً بأحكام ومبادئ الشريعة الإسلامية السمحة. فقد حث الإسلام الرجال أن يعرضوا بناتهم وأخواتهم على من يتوسمون فيهم الخير، بقصد الزواج، وذلك بأن يقول الرجل للرجل: إن عندي ابنة أو أختاً في سن الزواج، فما رأيك في أن تأتي منزلي لتراها، فربما يؤدم بينكما؟ كما يجوز للفتاة التي تخشى على نفسها العنوسة، أو الفتنة، أن تعرض نفسها للزواج في مختلف وسائل الإعلام. إن عرض الابنة على الرجل الصالح ورد ذكره في كتاب الله العزيز في قصة ابنتي النبي شعيب مع النبي موسى، عليهما السلام، في قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن). إن من أروع القيم الحضارية في سيرة خير البرية، عليه الصلاة والسلام، أن خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، هي التي خطبت الرسول، صلى الله عليه وسلم، لنفسها، لا العكس، و كان زواج الرسول، صلى الله عليه وسلم، دليلاً عملياً على هذا الموضوع. إذ أبدت له، رضي الله عنها، رغبتها في الزواج به؛ لما رأت من سجاياه الكريمة وشيمه النبيلة. فقد بعثت إليه تقول: يا ابن عم، إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك، وحسن خلقك، وصدق حديثك. وكانت، رضي الله عنها، يومئذ من أرفع نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً. فذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك لأعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبدالمطلب وعمه أبو طالب، حتى دخلوا على والدها خويلد، فخطبوها إليه، فزوجها. وحفصة، رضي الله عنها، كان أبوها عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قد عرضها على عثمان، رضي الله عنه، فأخبره أنه لا حاجة له في النساء، ثم عرضها على أبي بكر، رضي الله عنه، فسكت، فوجد عمر في نفسه شيئاً على أبي بكر، رضي الله عنه، فلما خطب النبي عليه الصلاة والسلام، حفصة، أفصح أبو بكر، رضي الله عنه، عن السبب الذي جعله يمتنع عن أن يقبل حفصة عندما عرضها عليه عمر، رضي الله عنه، وقال: «النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها». في «الصحيحين» عن سهل بن سعد، قال: «إن امرأة جاءت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصعَّد النظر وصوَّبه، ثم طأطأ رأسه. فلما رأت المرأة أنه لم يقصد فيها شيئاً جلست. فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوّجنيها». قال ابن حجر في «فتح الباري»: «وفي الحديث جواز عرض المرأة نفسها على الرجل، وتعريفه رغبتها فيه. وأنه لا غضاضة عليها في ذلك، وأن تَعْرِض المرأة نفسها عليه بالاختيار، لكن لا ينبغي أن يصرح لها بالرد، بل يكفي السكوت». قال الإمام النووي: «وفيه استحباب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح ليتزوجها». إن هذا الأمر لم يكن خاصاً بالرسول، صلى الله عليه وسلم. ودليل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم، زوّجها من الرجل الذي جاءه، وطلبها منه. فلو كان خاصاً به، صلى الله عليه وسلم، ما زوجها للرجل الآخر. وهذا دليل أيضاً على أنها امرأة تريد زوجاً، ولكنها فضلت الرسول، صلى الله عليه وسلم، في البداية. وحين رأت أن الرسول ليس له فيها رغبة، قبلت بالآخر. وهو دليل على أن للمرأة أن تخطب لنفسها من ترغب فيه، لدينه، وخلقه. وفي «إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع» أن الضحاك الكلابي عرض ابنته على رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، وقال: من صفتها كذا، وكفاك من صحة بدنها أنها لم تمرض قط، ولم تصدع، فقال: لا حاجة لنا فيها. إن عرض النساء للخطبة حثّ عليه الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، في أحاديث صحيحة. وفي «السيرة النبوية» ورد أن بعض رجال الأنصار كانوا قد عرضوا نساءهم على المهاجرين من دون خجل ولا استحياء، لما كان فيه من ضرورة اجتماعية. قال معبد بن خالد الجدلي: «خطبتُ امرأة من بني أسد في زمن زياد – وكان النساء يجلسن لخطابهن – قال: فجئت أنظر إليها، فإذا هي شابة جميلة». ويستشف من القول بأن النساء كنّ يجلسن للخطاب في مكان عام، وفي ذلك دلالة على أنهن كن من يبدأن بعرض أنفسهن للخطبة. ويؤكد ذلك قول الهيثم بن عدي، عن ابن عياش: «كانت النساء يجلسن لخطابهن، فكانت امرأة من بني سلول تُخطب، وكان عبدالله بن همام السلولي يخطبها؛ فإذا دخل عليها تقول له: فداك أبي وأمي! وتقبل عليه وتحدثه، وكان شاب من بني سلول يخطبها، فإذا دخل عليها الشاب وعندها عبدالله بن همام، قالت للشاب: قم إلى النار! وأقبلت بوجهها وحديثها إلى عبدالله. ثم إن الشاب تزوجها، فلما بلغ ذلك عبدالله حزن عليها حزناً شديداً وقال فيها شعراً». ويلاحظ من هذه الحادثة أن النساء هن من كن يبادرن لعرض أنفسهن للزواج، وأن رؤية الخاطب للمرأة هي وسيلة من وسائل الاختيار، وليست شرطاً للزواج، وليس بالضرورة أن يتزوجها. * باحث في الشؤون الإسلامية.