تنوعت القوى التي اندرجت تحت راية الممانعة. ثمة إسلاميون وعروبيون في المقام الأول، والباقون متنوعو المشارب، غالبيتهم من الماركسيين الذين لم نعد نسمع منهم كلاماً عن «الصراع الطبقي»، بل عن «الأمة وقضاياها القومية»، مما يجعل من الصعب تمييزهم عن سواهم من أهل المقام الأول. ما يهمنا هنا هو أهل هذا المقام الأول، العروبيون منهم فقط. ممانعة العروبة الأولى كانت ضد القريب لا الغريب، ضد الأتراك لا الغرب. لم تكن «التقدمية» من السمات التي تميز العروبة آنذاك، فهذه السمة لن تأتي إلا في ما بعد، أي بعد أن تحول حمولتها السجالية والكفاحية باتجاه الاستعمار، الذي لن يكون إلا الغرب الرأسمالي (المعسكر الاشتراكي لن يكون «غرباً» إلا مع الإسلامية المجابهة). التقدمية سمة مستعارة، استحضرتها العروبة مع ما تستلزمه من مفاهيم (كالاشتراكية والطبقات) من أيديولوجيات لطالما وجهت جهازها المفاهيمي الى السجال مع الغرب الرأسمالي، حيث التقدمية هي مسار زواله الحتمي. بعد الاستقلال، ستغدو مطاليب العروبة القومية هي المشروع التحديثي الذي ستعمل أحزابها وقواها على تجسيده. وهذا يعني العمل على ترتيب «الداخل» وتسويته اجتماعياً وثقافياً وسياسياً بما يهدف إلى تدعيم الممانعة في وجه الاستعمار وربيبته المدللة إسرائيل كمرحلة أولى، ثم تحقيق الأهداف الكبرى في التوحد والتحرر والاستقلال. هذا هو مضمون التقدمية العروبية التي ستحكم في ما بعد بصيغ متعددة تتراوح عقائدياً بين تغليب جانب الممانعة القومية على حساب «الاشتراكية»، أي على حساب التدخل المباشر والحاسم في إعادة صوغ المجتمع وطبقاته وثرواته، وبين من يذهب عكس ذلك (أهل اليسار)، وهو ما عكسه السجال الذي نشب بين البعث وعبدالناصر إبان الانفصال عام 1961. في مقابلة مع ميشيل عفلق عام 1960 يصرح بأن «لا وحدة مع الرجعية، ولا تقدمية مع التجزئة». يعني هذا الكلام ببساطة أن الوحدة، وهي نقيض التجزئة، هي المضمون التقدمي للعروبة، وأن ما قد يعوقها، داخلياً على الأقل، هو «الرجعية». والرجعية رجعية من دون أن تحمل بالضرورة مشروعاً «رجعياً»، يحاكي نموذجاً مضى وانقضى تريد إحياءه من جديد. إن الرجعية، وهي إحدى تعويذات التقدمية العربية، هي فعل تسمية لخصوم مباشرين أو لوقائع وسويات اجتماعية واقتصادية وثقافية وأخلاقية قد تكون موروثة وغير مصنوعة بالضرورة. وتستند هذه التسمية نظرياً إلى فلسفة صارمة للتاريخ، ترى في العروبة محطة التاريخ النهائية لهذه المنطقة من العالم. ومن هنا سيغدو الخارجون عن هذه الترسيمة إما رجعيين أو جهلة أو خونة. ولن ينجو من هذه التهمة الأخيرة «تقدميون» آخرون كالشيوعيين. في بيان له عام 1945، دعا ميشيل عفلق الشعب العربي إلى القضاء «على هذا الحزب الأجنبي»، وأن يعد «لأفراده ما يستحق الخونة والجواسيس». هم خائنون لأنهم يريدون حرف التاريخ عن حقيقته العروبية عبر نفي «الرسالة العربية». هذا نظرياً. أما عملياً وواقعياً، فقد كانت تلك الفلسفة ضرورية لإعادة تشكيل المجتمعات وتدعيم السلطة (أو هي أحد الأبواب إلى ذلك). مع ذلك، وعلى رغم أن العروبة لم تنفصل يوماً عن الهوية، على الأقل منذ ثلاثينات القرن المنصرم؛ فلطالما وعت نفسها كسعي إلى الاستقلال يضعها على قدم المساواة مع بقية الهويات التي تحتضنها المعمورة. وعلى الصعيد الداخلي ارتبطت بشعارات حرصت على إبراز وجهها التقدمي عبر الدعوات إلى القضاء على «التخلف» الذي كان يظهر في طريقة التعامل مع المرأة، وفي الموقف السلبي من انتماءات أهلية موروثة، وهو ما انعكس في هوامش على صعيد الحريات الاجتماعية. الآن، ومع جيل العروبة الحاضر، وإرث مكاسبها ونكساتها، سيغيب الوجه التقدمي للعروبة، وفي شكل يتناسب مع الحضور المتضائل لهذه الأخيرة. وبدل التقدمية، لن تكون هناك إلا الممانعة سبيلاً للعروبة الجديدة المتضائلة؛ بل وأكثر من ذلك يبدو أن الممانعة غدت بديلاً للعروبة ذاتها، حيث تراجع الكثير من مفاهيم هذه الأخيرة (كالوطن العربي ووحدته والأمة العربية...) لمصلحة ترسيمة أممية تجعل من أطراف غير عربية أقرب «إلينا» من عرب آخرين، أداروا ظهورهم «لنا»، نحن المؤتمنين على العروبة وأهلها. هذه الترسيمة الأممية هي الممانعة، التي تربط بين مختلفين لا تجمعهم سوى سياسات شعبوية قوامها مناهضة قيم وسياسات غربية، يجد فيها الممانعون تدخلاً في شؤون بلدانهم وإدارتها. وعلى الصعيد العربي الممانع، سيغدو الإسلام بنسخته الصاعدة، احدى عكاكيز الممانعة، بما يوفره من قيم الذاتية والتمايز والشحن، ووهم قائم على الاستقلال المطلق والكمال. في الممانعة، ثمة تناسب بين الانفتاح والانغلاق. فما أطلقنا عليه الأممية، هو انفتاح على سياسات خارج السياق العربي، تتلاقى على مناهضة «غرب ما»، ولكن في الوقت ذاته تحيي تقاليد الانفصال عن العالم والتمايز عنه، مستندة إلى فهم توحيدي يماثل بين عناصره ويذم مظاهر التعدد والاختلاف. شيء شبيه بالأمة التي نظّر لها اليمين الأوروبي واليسار القومي العربي في مرحلة ما. وهو ما يجد تجسيده في السياسة كما تفهمها وتمارسها النخب الممانعة؛ فالسياسة هنا، هي فعل باتجاه الخارج بما يصون الهوية والذات، أما في الداخل فهي لن تعني إلا التعدد الذي يقف كإحدى علامات الانحطاط والتدهور في حوليات الشمول والهوية، ويحرف الأمة عن أهدافها. وإذا صح ما جاء أعلاه كتعريف بالممانعة، فإنه لا يحددها إلا على مستوى الأيديولوجيا التي توجه غالباً إلى «الداخل» المحسوب عليها، بينما نجد لقادة الممانعة حساباتهم الأخرى، التي تجعل من «الخارج»، على تعدده وتنوعه، أولوية لا يريدون القطيعة معها. * كاتب سوري.