قبل 37 عاماً أنشأت الحكومة صندوق التنمية الصناعية، بغية دفع عجلة الاقتصاد الصناعي نحو الأمام، وأيضاً لوضع أسس للصناعة المحلية، وساعدت الطفرة المادية حينها في قيام مصانع تعتبر في تلك الحقبة من المصانع الكبيرة، واستفادت الكثير من الشركات والمؤسسات من هذه القروض الميسرة، وليس هذا فحسب بل إن الدولة حرصاً منها على تشجيع هذه الصناعات قدمت الكثير من التسهيلات، من حيث قيمة الأراضي الصناعية، أو رسوم الخدمات وإعفاءات جمركية، في تلك المرحلة كانت الصناعات بدائية والناس تنظر إلى كل شيء على انه صناعة، بدءاً من صناعة الثلج وخياطة الثياب، وتعبئة المياه، ومنتجات النحاس، وليس انتهاء بالطوب وخلال أكثر من ثلاثة عقود قدم الصندوق قروضاً تجاوزت 66 بليون ريال. وإذا نظرنا إلى المبلغ الذي انفق لدعم الصناعة السعودية سنجد انه مبلغ كبير، على رغم ان الكثير من أصحاب المصانع يشتكون من بطء وطول مدة الإجراءات للحصول على القرض، إلا أنني كمتابع اقتصادي أرى ان ما أنفق لا يوازي حجم وثقل الصناعة التي نتطلع إليها، فبعد 37 عاماً من قيام الصندوق ما الصناعة التي يمكن أن نقول عليها إنها بالفعل مغرية أو ذات جاذبية استثمارية، أو أنها مميزة وتستطيع ان تقول بفخر أنها صناعة سعودية، مصانع المساحيق والصابون والمنظفات كلها وكالات تجارية من الخارج، مصانع البلاستيك التي عددها يزيد على الأيدي العاملة فيها، تشتكي من المنافسة الخارجية واحتكار شركة سابك لمواد الخام، أما منتجاتها فلا يمكن مقارنتها بما يأتي من الخارج من جودة ومتانة وقوة وبأسعار منخفضة ومنافسة، أما في ما يتعلق بالصناعات الغذائية، فالكثير من مصانعنا تنتج أردأ أنواع العصائر التي تحتوي على مواد حافظة وألوان وسكر وماء وملأت أسواقنا بهذه العصائر، والحال كذلك لأنواع التسالي وكلها منتجات موادها مستوردة من الخارج، أو أنها تمثل اسماً لعلامات تجارية، الحليب المجفف الذي كنا نستورده من الخارج، أصبح الآن يعبأ في الداخل وأطلقنا عليه صناعة محلية، هل تعرفون وجبة الأطفال الشهيرة «إندومي» تعبأ محلياً وتحمل الاسم نفسه، المصانع الكبيرة محدودة في مجال الحديد والاسمنت والبتروكيماويات، وهذه المصانع قامت بتمويل من الشركات، حتى صناعة السيارات الثقيلة التي أعلنت بعض الشركات أنها تصنع هنا، ظهر أنها غير صحيحة فقط الهياكل الخارجية، أما جميع معدات وماكينة السيارة تستورد من الخارج. لا أريد أن أطيل في ذكر الصناعات السعودية، والتي أراها مخجلة إن استمرت على هذه الحال، فصناعاتنا إما «فرنشايز» أو أنها هشة من مشروبات وأغذية، ولم تحقق نسبة جيدة في توظيف السعوديين، بل إنها كانت السبب الرئيس في ارتفاع نسبة البطالة. يعتقد البعض أنني ألوم الصندوق الصناعي لرداءة صناعاتنا ومستواها المتدني في الأسواق ليس المحلية بل حتى الخارجية، وإذا كنا نصدر مشتقات الحليب والتمور والمواد الخام من منتجات البتروكيماوية والحديد والاسمنت، فهذه ليست «شطارة» أو انفراد فمعظم الدول لديها مثل هذه الصناعات، ولا يمكن ان نطلق عليها أنها صناعة تنافسية، إلا أنني ألوم الصندوق الصناعي فبعد مضي 37 عاماً وهو يقترب من ال40 وغير قادر على تقنين القروض ورفع مستوى الدراسات المقدمة له كجدوى اقتصادية من ان يضع شروطاً للمصانع التي ترغب في الحصول على قروض بأن تضع معايير جديدة أو مواصفات من أهمها ان تكون مختلفة وليست مكررة، وان تبادر إلى المطالبة بأصحاب الشركات بدعمها لمشاريع تعكس مدى قوة ومتانة المملكة الاقتصادية، وعليها ان تشجع كصندوق حكومي وهي تمثل توجه الدولة في دعم الأفكار الاستثمارية الصناعية، مثل الصناعات الالكترونية ومنتجات الأخشاب وتطوير صناعة البلاستك، المبادرة بإنتاج قطع غيار السيارات، الملابس الجاهزة، تشجيع قيام صناعات تحويلية. هناك الكثير من الصناعات القوية والشجاعة التي يتطلب من الصندوق ان يدعمها، واعتقد من الضروري من يتوقف الصندوق من دعم الصناعات التي لا تضيف للاقتصاد المحلي جديداً، وان يحدد مساره بعد عمر امتد ثلاثة عقود ويتحول إلى صندوق يرسم مسار الصناعة السعودية وينتقي المشاريع المميزة، ويخرج من عباءته الرسمية ويبتكر مسابقات وجوائز للصناعات الفريدة والمميزة، وعلى القائمين على الصندوق يجب ان يدركوا أن جلوسهم هكذا خلف المكاتب في انتظار المقترضين لن يؤدي إلى رفع مستوى الصناعة في البلاد، بل من الضروري ان يخرجوا ويلتقوا بالمستثمرين ويدفعوهم إلى المبادرة والتشجيع والدعم وخلق بيئة استثمارية ناجحة، فالكثير منهم لديهم الرغبة ولكن يفتقدون إلى الدعم والتشجيع. من المهم ان يتفرغ الصندوق لدعم الصناعات المميزة، والحقيقة أطلق الصندوق هذا العام برنامجاً اعتقد انه يشتت نفسه في مجال دعم القروض الصناعية للمشاريع المتوسطة والصغيرة، وهذا التوجه من الصندوق لن يجعله يفكر بشكل جدي في رسم خطط مستقبل الصناعة، خصوصاً ان برنامج كفالة، يعتمد على موافقة البنوك أولاً ومن ثم يقدم الصندوق قرضه للمستثمر، فيصبح هم الصندوق هو الحصول على ضمانات لاسترجاع القرض، وليس جودة المنتج وتميزه. في رأيي ان الصندوق الصناعي أقحم نفسه في هذا البرنامج، كما انه من الضروري ان يتوقف عن تقديم القروض لأي منشأة صناعية قد تكون مكررة او غير مجدية، أو ان أصحابها فقط ينتظرون القرض للحصول على المبلغ (لأنه ليس جمعية خيرية)، وسياسة الصناعة في السعودية من المهم ان تحدد مسارها وإلا ستجد نفسها خارج المنافسة في ظل الحرب الشرسة من الدول المجاورة ومن دول آسيا مثل الهند والصين، وفي ظني ان إغلاق الصندوق سيرفع من مستوى الصناعات المحلية وأيضاً بدخول استثمارات أجنبية. * إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected]