لا أحد يشكك في أن العلاقات بين الرياضوواشنطن تمر بمنعطفات كبيرة في الآونة الأخيرة، على خلاف ما كانت عليه خلال العقود الماضية منذ تأسيس العلاقات الإستراتيجية الخاصة بينهما في مطلع أربعينات القرن الماضي. وقد أثبتت «العلاقة الخاصة» بينهما صلابتها في وجه عدد من المتغيرات والأزمات التي اعترتها خلال فترات متفاوتة، مثل الحظر النفطي عام 1973 وأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)... الخ. ويعزى هذا الثبات في علاقة الطرفين إلى متانة الأسس التي بنيت عليها، والأرضية الصلبة من المصالح المتبادلة في مختلف المجالات التي قادت في نهاية المطاف إلى تناغم واضح في الرؤى والأهداف في معظم الملفات الإقليمية والدولية. السعودية استغلت ثقلها الاقتصادي والمالي، وكذلك الروحي والسياسي، لتعزيز أهداف سياستها الخارجية، فيما سعت إلى الاستفادة من الدعم العسكري الأميركي، بل المظلة الأمنية الأميركية عند الحاجة. وهكذا تمَّ بناء تحالف استراتيجي كان حاسماً في كثير من الملفات والأزمات التي واجهت الطرفين، خصوصاً السعودية. وبما أن السياسة الدولية لا تتسم بالثبات بقدر ما تتسم بالتغير والديناميكية، فإن السنوات القليلة الماضية حملت بوادر تغير واضح وملموس في توجهات السياسة الخارجية الأميركية، وما تبع ذلك من إسقاطات بليغة على العلاقات مع السعودية. واشنطن أصبح لديها فكر إستراتيجي جديد يحمل معه أولويات مختلفة نسبياً في ما يتعلق بدور أميركا على الساحتين الإقليمية والدولية، وبمصادر التهديد المستقبلية للهيمنة الأميركية، والتي تتطلب منها خلق حلفاء جدد واحتواء بروز القوى الكبرى الأخرى. السعودية لم تكن بمنأى عن التغير في أولويات السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، سياسة المشاركة Engagement في الحدث عوضاً عن التدخل Intervention التي تنتهجها الإدارة الأميركية حالياً، قادت إلى نوع من الانكفاء النوعي في الدور الأميركي إزاء الأزمات والقضايا الإقليمية، وكانت النتيجة المباشرة مزيداً من «السيولة السياسية» في المشهد السياسي الإقليمي، خصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار السياسات التدخلية أو التوسعية التي انتهجتها واشنطن في السابق والتي رسمت من خلالها ملامح النظام الإقليمي وتوازنات القوة بداخله. التغير المفاجئ الآخر تمثَّل أيضاً في «التطور الإيجابي» الذي لحق بعلاقات واشنطنوطهران، والذي أثمر عن اتفاق حول الملف النووي الإيراني، الأمر الذي أتاح فرصة ذهبية لإيران للعودة إلى حظيرة المجتمع الدولي، وإثبات نجاعة سياستها الخارجية مع القوى الكبرى. وأمر طبيعي أن يعطيها ذلك مزيداً من المساحة للتحرك في محيطها الإقليمي. واشنطن أصبحت عملياً لا تشاطر الرياض قلقها البالغ من التدخلات الإيرانية في المنطقة، وترى أن التوتر لا يخدم المنطقة وأن العلاقات الإيجابية هي السبيل إلى حل قضايا المنطقة وأزماتها، متجاهلة في ذلك أن طهران مسؤولة بدرجة كبيرة عن التوتر والاستقطاب السياسي والمذهبي. ولذلك علاقة أيضاً بموضوع الإرهاب الذي أصبح الملف الأكثر أهمية لواشنطن، حيث لا يمكن الحديث عن الإرهاب من دون ذكر الفراغ السياسي والأمني الناتج في جزئية كبيرة منه عن سياسات أميركية معينة في المنطقة، واستغلال إيران ذلك في شكل لا يخدم الاستقرار الإقليمي. الرياضوواشنطن اختلفتا أيضاً حول مصير الثورات العربية وطبيعة الأنظمة التي خرجت من رحم هذه الثورات، وما لذلك من أثر في السياسة الإقليمية، فالرياض رأت أنها مطالبة بتبني سياسة خارجية حازمة تجاه بعض الملفات والأزمات التي خلَّفها الربيع العربي، وذلك دفاعاً عن مصالحها وأمنها الوطني من ناحية ورغبة في توجيه دفَّة الأمور في الاتجاه الذي تراه يعزز الاستقرار الإقليمي ويخلق مشهداً سياسياً إقليمياً ايجابياً للرياض وحلفائها من ناحية أخرى. ولم يقتصر التغيُّر في العلاقة بين الطرفين على المجالات الأمنية والسياسية، بل طاول أيضاً الجانب الاقتصادي، حيث قلَّ اعتماد واشنطن على النفط السعودي بدرجة كبيرة، لا سيما مع تزايد الإنتاج الأميركي من النفط الصخري والذي تجاوز 5 ملايين برميل يومياً. تراجع دور «أوبك» في سوق النفط العالمي، الناتج من تراجع حصتها من الإنتاج العالمي لتصبح نحو 32 في المئة حالياً، بعدما كانت تشكل ما يقرب من 60 في المئة في مطلع السبعينات من القرن الماضي، جعل مستوردي النفط ومنهم أميركا، أقلَّ ارتهاناً لدور الدول الأعضاء في «أوبك» على خلاف ما كانت عليه الأمور سابقاً. نقاط الخلاف هذه لا تعني بالضرورة عدم أهمية العلاقة بين الطرفين ولا تعني غياب أطر التعاون بينهما، فأميركا القوة العظمى الأكثر تأثيراً في السياسة الدولية وستظل كذلك في المدى المنظور، فيما تظل السعودية قوة إقليمية ذات نفوذ واضح في محيطها الإقليمي، مهما تعدَّدت الأزمات التي أصبحت طرفاً فيها، والتي يتوجب حلها كي يزيد هامش المناورة للسياسة الخارجية السعودية. كما أن التغير في السياسة الخارجية الأميركية لا يبدو ناتجاً من تغير في القيادة بقدر ما هو ناتج من قراءة إستراتيجية جديدة أو تغير في «الإستراتيجية العظمى Grand Strategy» لواشنطن حول العالم، بما في ذلك العالم العربي. * مستشار الأمين العام لجامعة الدول العربية