الفرح واحد من انفعالات عدة تشكّل بمجموعها - عند بعض علماء النفس - الانفعالات الأصلية أو الأساسية للنفس البشرية، وهي: الفرح، والحزن، والحب، والكره، والرغبة، والتعجب. كما أنه أمر فطري، جُبِلَتْ عليه النفس، فما من إنسان إلا وهو يفرح ويحزن كما قال علماء النفس، وسبقهم السلف إلى هذا المعنى بعبارة أكمل نُقِلت عن ابن عباس، ونسبها بعضهم إلى تلميذه عكرمة، جاء فيها: «ليس من أحدٍ إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبتَه صبراً، وغنيمتَه شكراً». وتغمر أفراد المجتمع في هذه الأيام فرحة النجاح، وتكثر التبريكات والمناسبات، إلا أن المراقب لأحوال المجتمع يقف على أمر أخشى أن يغدو ظاهرة مجتمعية كإفراز طبعي للترف الذي نشهده ونعايشه، ألا وهو ما يسمى بحفلات النجاح بثوبها الجديد وطقوسها الغريبة، وقد نشرت صحيفة «الجزيرة» في عددها (13070) تحقيقاً عن هذه الحفلات، وما يصاحبها من مظاهر تعبّر عن الخلفية الثقافية التعيسة لأجيال المستقبل، ولعل غالبية هذه الحفلات تتفق في السباق المحموم نحو التقليعات الغربية والغريبة، ابتداء من عبارات الدعوة التي تزين كرت الحفلة، ومروراً بتزيين القاعة بشكل غير تقليدي كتغيير الإضاءة بما يتناسب مع الديسكو الصاخب، أو تقسيم ديكور القاعة إلى لونين لفريقين مشهورين؛ لأنّ مضيفات الحفلة منقسمات في تشجيعهن الرياضي، وانتهاء بإيجار المطربة المشهورة لإحياء الليل كله - تجاوزاً في التعبير - وإن كان في حقيقته قتلاً بالرقص والطرب، ناهيك عما يصاحب هذه الحفلات من السباق للفوز بكلمة أحلى أو أكبر أو أغرب، فالفتاة مستعدة أن تدفع خمسة آلالاف لتزيين وجهها، وخمسة أخرى لتصفيف شعرها، وعشرات الآلاف على فستانها الذي طلبته من المصمم العالمي لتفوز بكلمة أحلى، وأخريات يزدن في القَطة (وهي مبلغ مالي تشترك الفتيات في دفعه في مقابل تكاليف الحفلة) ليصنعن أكبر كيكة نجاح، فيغدو حجم الكيكة وشكلها حديث المجالس حتى تأتي الدفع المقبلة لكسب الرهان بالمنافسة، وأما الغرابة فحدث ولا حرج، وما اشتراط اللباس التنكري للحاضرات، والاشتراط المكتوب وغير المكتوب من عدم اصطحاب الأمهات، والتقليعة في التسريحات والأزياء إلا دليل على البحث عن الغريب والشاذ والمستنكر والمنكر لدى أمهات المستقبل. إن علينا أن نطرح تساؤلاً يُعدّ المنطلق الأول لعلاج مثل هذا الداء الذي بدأ في مجتمعنا، من المسؤول عن هذا كله؟ هل هم المربون بدءاً بالآباء والأمهات وانتهاء بالمؤسسة التعليمية؟ أو إن وسائل الإعلام أسهمت في تشكيل الخلفية الثقافية للأجيال؟ أو المادة مع الفراغ القاتل الذي تعيشه الفتيات؟ أو هذه العوامل مجتمعة مع عوامل أخرى أفرزت مثل هذه الترهات؟ لا بد أن يعي الجيل أن التعبير عن الفرح مطلب إنساني بل وشرعي أيضاً، وفي كتاب الله (قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، لكن الفرح لا بد أن يكون في ما ينبغي، وبالقدر الذي ينبغي، وعلى الوجه الذي ينبغي، وهذا جماع الاعتدال وعينُه، وإلا خرج من نطاق الممدوح إلى المذموم، وفي قصة قارون أنموذج فرح المترفين الذي كان عاقبته البوار والخسارة، وتأمّل قوله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ). إن موعظة القوم لقارون كانت معتدلةً متزنة، فإنه لم يُنْهَ عن الفرح المعتدل، الذي لا يُنسي الشكر، وإنما وُجّه النهي إلى الفرح المبالغ فيه، والذي يُفضي إلى الفساد والبطر، وهو ما عبّر عنه المفسّرون بعبارات متنوعة. القرآن لم يذمَّ الفرح لذاته؛ وإنما لمتعلقه، كما هو الشأن في قصة قارون، فليت الجيل يفهم معاني القصة القرآنية وغاياتها، وعاقبة من هم على شاكلة قارون. ولبعض الخريجات موقف يذكر ويشكر، إذ صرفن مبلغ الحفلة في أوجه الخير والصدقات الجارية فبقي اسمهن على عملهن في الدنيا، وأسأل الله أن يجدنه أمامهن في الآخرة. والعتب كل العتب في مثل هذا على أولياء الأمور من الآباء والأمهات الذين نسوا مسؤوليتهم في التربية، وحصروها في التغذية، فليتهم يعيدوا النظر في حساباتهم لتصحيح أخطاء ثمرات أفئدتهم، قبل أن تصير شوكاً في طريق التقدم المجتمعي. * أكاديمية، وداعية سعودية.