لافتات «الخروج» المتلاحقة لا يفصل بينها إلا علامات «سقوط حر» المتواترة التي لا يقطعها سوى «الميزان» ببضع تنويهات ويكلل الجميع «هي ودافنشي» بإعلان ضخم لا ينافسه في الضخامة سوى «رامز بيلعب بالنار». ويخطئ من يعتقد بأن الأخبار فلتت من السباق الرمضاني أو أن هموم العالم العربي خفتت تحت وطأة الهجمة الرمضانية الدرامية، بل العكس هو الصحيح ويكفي «ميني داعش» الذي أزعج الجميع، إن لم يكن تحت وطأة الركاكة والفظاظة، فلأنهم هربوا من واقع العنف والدماء والذبح بحجة رمضان ليجدوا أنفسهم غارقين فيها ولكن على سبيل الدعابة. وعلى رغم أن الدعابة والكوميديا والضحك والبهجة ليست سمة رمضان التلفزيونية هذا العام، إلا أنها فرضت نفسها، من باب شر البلية. فحجم الأمراض النفسية، وكم العفاريت، وحوادث القتل، وتلال المرافعات والقضايا في أروقة المحاكم، والفيلات الشاهقة الفارهة الفاخرة جنباً إلى جنب مع العشش الهابطة المتواضعة المتهالكة المحشورة في دقائق درامية قليلة في خضم ساعات إعلانية طويلة في حد ذاتها صارت مادة للتندر ومثاراً للضحك. تُضحك الملايين في الخفاء في بيوتها حيث الأبواب المغلقة على أصحابها بينما هم أمام الشاشات المتناحرة تناحراً غير مسبوق في الإبقاء على المشاهد ملتصقاً بها، معتمداً عليها، مضطراً إلى عدم الضغط على الريموت خوفاً من أن تفوته لقطة في مسلسل هنا أو «إفيه» في إعلان هناك. وما أن تُفتح أبواب البيوت أو تتسلل الأنامل إلى لوحات الهاتف المحمول أو الكمبيوتر الشخصي حتى تتنافس الغالبية في صب جام العضب وكل الحنق على هذه الإعلانات «القليلة الأدب» «العديمة المراعاة للآدب والعادات». وحيث إن المشاهدين قد اعتادوا في السنوات القليلة الماضية أن تكون الملابس الداخلية الرجالية سمة من سمات رمضان الإعلانية حيث اعتماد على المباهاة بنوعية القطن المستخدم، أو ألوان المنتج المعلن عنه، فإن الجميع لم يزعجه أن يستهل الشهر الكريم جوانبه الإعلانية بإعلانات في هذا الصدد. لكن الأيام الرمضانية الأولى كشفت الستار عن سلسلة من الإعلانات الخفيفة الظل لكنها تتسم بمقدار غير كبير من المكاشفة يسميها بعضهم «جرأة» وينعتها آخرون ب «قلة الأدب»، وإن كان الفريقان يضحكان ملء شدقيهما خلف الأبواب المغلقة، وهو الضحك الذي يتحول إدانة وتنديداً في جلسات التقويم الأسرية أو تدوينات النقد الشعبية. وداعاً ل «الداندو» أما «جهاز حماية المستهلك» فقد كان له موقف صارم مباغت، إذ قرر وقف أربعة إعلانات كانت حديث المصريين منذ بداية الشهر الكريم. فبين «الداندو» (حيث إيحاءات جنسية من بوابة الرضاعة) والملابس الداخلية (وإيحاءات جنسية) ومشروب مياه غازية ومشاهد وُصفت بالجريئة، قرر الجهاز وقف بث هذه الإعلانات، وهو ما فجر جدلاً شعبياً أكبر وخلافاً فكرياً أعمق. فبين مجموعات صفقت للقرار معتبرة الدولة راعي الأخلاق الأول وحامي حمى العادات والتقاليد الأصيلة، ومجموعات أخرى سخرت وغضبت من فكرة الدولة راعية الأخلاق وحامية حمى عادات وتقاليد لم يعد لها وجود إلا في أدمغة متحجرة لا سيما أن أرض الواقع تشير إلى تدنٍ أخلاقي رهيب وتحلل سلوكي مقيت، ما يعني أن مثل هذه القرارات الفارضة الوصية الفكرية والأخلاقية على الشعب ما هي إلا «شيزوفرانيا صارخة»، انشغلت الملايين بالإعلانات المثيرة للجدل والضحك والتلسينات. لكن المثير هو أن هذه الإعلانات الممنوعة ذاع صيتها وانتشرت مشاهدتها انتشاراً لم يحلم به أصحاب المنتج وقت أنفقوا عليها من موازناتهم. فقد تداولتها الملايين عبر «يوتيوب» فشاهدها من لم يكن قد فعل، واستنبط إيحاءاتها الجنسية من لم يكن قد لاحظها. الملاحظة الواضحة هذا العام إن شبكة الإنترنت بروادها تحولت إلى منصة نقدية لكل كبيرة وصغيرة على الشاشات الرمضانية. ليس هذا فقط بل إن مجموعات الأصدقاء الافتراضيين أسست صفحات لتصنيف المسلسلات والتعريف بها وتقويمها وترجيح كفة هذا على حساب ذاك. ويمكن القول إن النشاط العنكبوتي النقدي للشاشات الرمضانية لعب دور البطولة في دفع «جهاز حماية المستهلك» لاتخاذ قرار وقف الإعلانات بعد صخب عنكبوتي صارخ طيلة الأسبوع الأول من رمضان. صخب مشابه تسبب فيه قرط «الحاجة زينب». وهو القرط الذي تبرعت به سيدة مصرية بسيطة لصندوق «تحيا مصر»، وسرعان ما تحول في رمضان إلى إعلان يعرض آلاف المرات بعد معالجة قصة السيدة بطريقة درامية مبالغ فيها بهدف جذب التبرعات للصندوق. كما أن استخدام صورة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وهو يقابل السيدة ويكرمها أثار استهجان كثيرين سواء من المعارضين لفكرة التبرعات لمصلحة الصندوق، أو المعترضين على استخدام شخص رئيس الدولة في إعلان لجمع التبرعات. المهم أن الحاجة زينب صارت ترينداً على هاشتاغ تويتر. وعلى الصعيد الدرامي، مكن الأسبوع الأول من رمضان المشاهدين من تكوين صورة عامة عن نوعية الشخصيات المهيمنة على الأعمال الدرامية. وبعد سنوات شكا فيها القاصي والداني من سطوة البلطجية وقطاعي الطرق والعاملين في الدعارة والتي جعلت بعضهم يعتقد بأن هذا الجزء من العالم ما هو إلا عشوائيات وبلطجية وعاملات في الدعارة، وبعد سنتين من نشوة رياح الربيع وزهوة حلم التغيير الثوري حيث مسلسلات العيش والحرية والعدالة الاجتماعية التي اتضح في ما بعد أنها «نصف مطهية» حيث قصور رؤى التغيير وسذاجة مشهد التعديل وعدم تقدير فعلي لهجمة جماعات الإسلام السياسي على المشهد برمته، وبعدها عام من التركيز على الإسلام السياسي وكأنه اكتُشف فجأة حيث أعمال عن نشأة جماعة الإخوان وأخرى عن ظاهرة الدعاة الجدد وثالثة عن دعاة التطرف. ويمكن القول إن أفكار وشخصيات مسلسلات هذا العام تعود إلى قواعد المجتمع بعيداً من الشد والجذب الثوري، أو الاستقطاب الحادث حول الإسلام السياسي والتطرف الديني. وعلى رغم أن هذه العودة تكشف سمات مثيرة للعجب، لكنها على الأقل تعلن نهاية فترة من الاستنفار الثوري والتجريح السياسي. قصص حب، جرائم قتل، حياة أسرة، مشكلات زوجة وغيرها من الحكايات التي يمكن تصنيفها بالعادية اجتاحت الشاشات هذا العام. لكن الملاحظ هو ظاهرة المرض النفسي في أكثر من مسلسل، وهو ما يعد ظاهرة إيجابية في مجتمعات لطالما نظرت إلى الأمراض النفسية إما باعتبارها غير موجودة وإما وصمة تفضح صاحبها وأسرته. وكذلك بزغ نجم النساء الناجحات مهنياً، لا سيما في المحاماة، وهي علامة إيجابية أخرى حيث تخرج المرأة من رداء الدعارة أو المغلوبة على أمرها أو الطيبة التي لا ينقصها إلا جناحان لتتحول إلى ملاك. ولكن في الوقت ذاته، بزغ نجم جرائم القتل في شكل لافت في أكثر من مسلسل ربما لتعكس تطوراً مجتمعياً حقيقياً يستحق الدرس. نفسية المقالب ما يستحق الدرس أيضاً هو المنطق وراء برامج المقالب، لا سيما تلك التي تعتبر ترهيب البشر وتوصيلهم إلى حد الانهيار العصبي شكلاً من أشكال الترفيه ومصدراً من مصادر الضحك والتنكيت، حتى وإن كان ذلك يتم بالاتفاق مع الضيوف وتسديد مبالغ مالية ضخمة لهم كما يقال. والأدهى من ذلك هو تعليقات يتسم بها برنامج المقالب الذي يقدمه هذا العام الفنان رامز جلال تحت عنوان «رامز بيلعب بالنار» حيث يسخر من أصحاب الأوزان الزائدة، وينعت الضيوف بنعوت تتسم بقلة الذوق والتجريح، وهو ما يساهم في تشويه الذوق العام ويدعم ظاهرة الأخلاق المتدنية. في السياق ذاته، ولكن في شكل أكثر فجاجة، يأتي برنامج مقالب آخر وهو «ميني داعش» المعتمد على مجموعة من الملثمين الذين يوهمون الضيف الضحية بأنه وقع في قبضة الدواعش. جريدة «ديلي ميل البريطانية» وصفت البرنامج بأنه «أبشع برنامج تلفزيوني في التاريخ». أما وكالة «سبوتنيك» الروسية فتساءلت باستغراب: «في الوقت الذي يحارب فيه العالم «داعش»، قررت مصر أن تنظم برنامج مقالب يقلد الدواعش». لكن بصيصاً من نور يبزغ مع رد الفعل البالغ الإيجابية لمشاهدي برنامج «الصدمة» وتدويناتهم وتغريداتهم الداعمة للبرنامج وفكرته. وبدلاً من الحرق والصراخ والأحزمة الناسفة والبكاء والخوف والرعب في برامج المقالب الذائعة الصيت في رمضان، يأخذ «الصدمة» منحى مختلفاً مع احتفاظه بصفة «المقالب». فهو يعتمد على مواقف تمثيلية يتعمد فيها الممثلون القيام بعمل غير إنساني مثل سوء معاملة الأم أو الأب أو شخص ذي قدرات خاصة، ورصد ردود فعل المحيطين، والذي يكشف أن «الدنيا ما زالت بخير». ويمضي قطار رمضان التلفزيوني موزعاً مزيداً من هداياه الجميلة تارة، والصادمة تارة، والملغمة ب «الداندو» وأقرانه دائماً حيث فريق داعم لحرية التعبير وآخر غاضب لأنه لا يناسب روح الشهر الفضيل وثالث لا يعنيه الأمر لكنه اطلع عليه من باب التسلية أثناء الشهر الكريم.