أعادتنا عملية تل أبيب التي استهدفت رواد أحد المطاعم من الإسرائيليين، إلى زمن الانتفاضة الثانية (2000 2004)، التي صعدت فيها العمليات التفجيرية التي استهدفت أيامها مطاعم وملاهي وحافلات وأسواقاً. ما يلفت الانتباه أن العقل الجمعي، المتأسّس على العواطف والشعارات وتقديس الكفاح المسلح، ينسى في تلك اللحظة الحماسية والثأرية دروس التجارب الماضية، والأثمان الباهظة التي تم دفعها من دون تحقيق العوائد المتوخّاة من عمليات كهذه، ومن دون أي تناسب بين حجم التضحيات والإنجازات، مع علمنا أن المسألة ليست مجرد عملية حسابية، وإنما هي عملية سياسية، إذ حتى على هذا الصعيد فإن المقاربة ليست في مصلحة هذا الخط إطلاقاً. طبعاً، وبكل المقاييس والمعايير يمكن اعتبار هذه العملية بمثابة رد فعل طبيعي على الاحتلال والاستيطان والسياسات الإسرائيلية الصلفة والعنصرية، بيد أنها في الوقت ذاته نتاج الثقافة الفصائلية السائدة، ونتاج عجز الفصائل عن ايجاد ثقافة مقاومة تتناسب مع إمكانات الشعب الفلسطيني ومع الظروف والعصر. على هذا الأساس يمكن التمييز بين روح البطولة والتضحية عند منفذيها وبين كونها عملية فردية وعفوية لا علاقة لها بأي سياق سياسي أو كفاحي بالمعنى الاستراتيجي. في نقاش الناحية الأخلاقية يمكن القول إن إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والمغتصبة هي المسؤولة عن كل ما يحصل عند الفلسطينيين، عن حال الإحباط لديهم، وشعورهم بالقهر والغضب، بيد أن هذه العملية التي استهدفت مدنيين تضرّ بصدقية كفاحهم، وهو أمر يفترض أنهم باتوا أكثر وعياً وحساسية ازاءه على ضوء تزايد التعاطف العالمي مع قضيتهم وحقوقهم، ومع تزايد دعوات عزل ومقاطعة إسرائيل على الصعيد المجتمعي والدولتي في أوروبا وحتى في الولاياتالمتحدة الأميركية. ومعلوم أن هذا الأمر وصل إلى العقل السياسي ل «حماس»، بتأكيد زعيمها خالد مشعل أن كتائب شهداء الأقصى تجنّبت قصف المدنيين الإسرائيليين، إبان الحرب الثالثة على غزة (2014)، وهو على ما يبدو لم يتم هضمه بعد في ثقافة مناصري او منتسبي «حماس» بعد. الفكرة هنا أن التضحية والبطولة، لا تكفيان، ولا تمنعان التداعيات الخطيرة، أو غير المحسوبة، التي يمكن أن تنتج منهما، بوصفهما عملاً فردياً، ولا يرتبطان بأية أجندة فصائلية. لكن المشكلة هنا تبدو في احتفاء الفصائل بعمليات كهذه، بحيث تظهر كأنها تحاول تغطية عجزها بها، لا سيما أن هذه العمليات تكشف غياب استراتيجية نضالية واضحة للفلسطينيين، بعد نصف قرن من مسيرة حركتهم الوطنية، كما تكشف عفوية وتجريبية ومزاجية عملهم المسلح. أما المأخذ على هذه العملية، وأية عملية مماثلة، عدا البعد الأخلاقي، فهي أنها لا ترتبط بأي أفق سياسي، ولا تنبثق من قدرة على ديمومة هذا الشكل النضالي، لا سيما في ظروف تصدّع المشرق العربي، وهذا الخراب الدولتي والمجتمعي في سورية والعراق. وإسرائيل التي شنّت ثلاثة حروب تدميرية على غزة (2008، 2012، 2014) من دون أن يوقفها أحد، ربما تجد في هذه الظروف الفرصة لشن حرب جديدة على غزة، أو ربما تنتهج ممارسات ينجم عنها اقتلاع وتشريد ألوف أو عشرات ألوف الفلسطينيين، من الخليل أو القدس، مثلاً. وقد شاهدنا أن العالم تسامح مع نظام بشار الأسد الذي قتل مئات الألوف من شعبه ودمر عمرانه وشرد الملايين منه، فماذا سيفعل هذا العالم مع إسرائيل إذا قامت بربع ذلك مع الفلسطينيين؟ أيضاً، مشكلة الفلسطينيين أنهم لا يراجعون تجربتهم التاريخية بطريقة نقدية. فأين كان الكفاح المسلح الفلسطيني الذي بدأ في منتصف الستينات من القرن الماضي والى أين وصل؟ ثم في الانتفاضة الثانية (20002004) كنا شهدنا أكبر مواجهة بين الفلسطينيين وإسرائيل التي تكبدت وقتها خسائر فادحة بالأرواح (1060 قتيلاً)، اي أكثر مما تكبدته اسرائيل على يد «حزب الله» طوال 18 عاماً. بعد ذلك لنلاحظ أنه بينما قتل في العام 2002 حوالى 420 إسرائيلياً في عام واحد، قتل في 2003 حوالى 200 وفي 2004 حوالى مئة، وفي 2005 حوالى 50 وفي 2006 حوالى 25، أي أن إسرائيل استطاعت امتصاص المقاومة فضلاً عن انها قوضت بنى الحركة الوطنية الفلسطينية وأعادت احتلال الضفة، ونكلت بالفلسطينيين. فوق كل ذلك فعلت إسرائيل الآتي: منعت الفلسطينيين من الدخول الى القدس إلا بإذن، وأقامت الجدار الفاصل، وبنت عشرات النقاط الاستيطانية، وأقامت الحواجز بين مدن الضفة الغربية وقراها. الآن ليس القصد أن الفلسطينيين ينبغي أن يقعدوا عن النضال وأن يستسلموا، وإنما القصد أنهم معنيون بمعرفة أية أشكال نضالية هي الأجدى لهم (مثلاً الانتفاضة الأولى) وأن يوازنوا بين الكلفة والمردود، وأيضاً ألا يكون أي شكل نضالي طريقاً لاستنزافهم بدل استنزاف عدوهم، أي إن المقاومة ينبغي ان تأخذ باعتبارها صمود الشعب وقدرته على التحمل وإمكان تطوير المجتمع الفلسطيني وتعزيز كياناته السياسية، وإلا فإن هذا الشكل من المقاومة لن يضر بإسرائيل وإنما سيسهّل لها استفراد مجتمع الفلسطينيين واستنزافهم وإخضاعهم. بديهي أن البعض يسأل عن البديل، وهذه فرصة للتأكيد أن كاتب هذه السطور لا يرى في المفاوضة، أو في اتفاق أوسلو، طريقاً لأخذ الحقوق الفلسطينية، بمعنى أن التجربة الفلسطينية أخفقت في الحالين، أي في المقاومة وفي التسوية، بسبب الافتقاد إلى رؤية سياسية استراتيجية، وأيضاً بحكم ضعف البنية السياسية الفلسطينية (المنظمة والسلطة والفصائل)، وتكلسها وترهلها. أما بالنسبة الى سؤال البديل، والذي يبدو سؤالاً تعجيزياً، فإن الرد عليه بسيط جداً، إذ من العبث السير في طريق أثبت فشله، وتبيّن ضرره، مع وجود بديل أو بعدم وجوده. على ذلك، ربما الأجدى للفلسطينيين، في هذه الظروف الصعبة داخلياً وخارجياً، العودة لالتقاط الأنفاس، وتفويت الفرصة على إسرائيل لاستغلال ما يجري في المنطقة للإمعان في البطش بهم، وتفكيك مجتمعاتهم، فهذه الظروف لا تمكن من تحرير ولا شبر من فلسطين، ولا تمكن من إضعاف إسرائيل مع كل ما يحصل في المشرق العربي. الأحرى في هذه الظروف مراجعة الفلسطينيين تجربتهم بطريقة نقدية ومسؤولة، ومعاودة بناء مجتمعاتهم في الداخل والخارج واستعادة اجماعاتهم وإعادة بناء كياناتهم السياسية على أسس جديدة ووفق رؤية سياسية تطابق بين قضية فلسطين وشعب فلسطين وأرض فلسطين، وانتهاج طرق كفاحية تناسب قدرات شعبهم ولا تتيح لإسرائيل استخدام قوتها الطاغية لاستنزاف وتفكيك مجتمعاتهم.