الآن، وقد تبقت ايام قليلة على موعد استفتاء سكان جنوب السودان على خياري الوحدة مع الشمال أو الانفصال عنه، في هذه اللحظات الحرجة، معنى وزمناً، قدم التلفزيون السوداني دعوة مستعجلة للدراميين السودانيين: هاتوا اعمالكم التي تعزز اسباب الوحدة بين جنوب البلاد وشمالها، تعالوا ب 30 ساعة دراما، تؤكد ان السودان بلد متعدد الثقافات والاعراق وان جميع قبائله تتعايش في اخاء وتفاعل، وان ما يقرّب بينها أكثر مما يفرق! لا نعلم إن كان التلفزيون قنع اخيراً بأن للدراما المحلية فعاليتها وتأثيرها المباشر على الناس، وانها يمكن ان تقوم بدور حاسم في هذه المسألة الحساسة - اي مسألة الوحدة والانفصال - اذ لم يفصّل التلفزيون، الذي توقف وقتاً طويلاً عن إنتاج المسلسلات المحلية وبثها، في ما لو كان درس الامر فعلاً وانتهى إلى ما انتهى اليه. كل ما هناك انه طرح دعوته، وانتظر! بالطبع لا يمكن ان نعرف الغاية من هذه الخطوة؛ فبمقدار ما يبدو هذا التوجه الجديد للتلفزيون معبراً عن قناعة بأهمية الدراما المحلية، هو ايضاً يبدو كمحاولة منه - أي من التلفزيون - لإبراء الذمة، او لإخلاء ساحته من المسؤولية في حال سُئل، في وقت ما، عن مساحة الدراميين في خريطة برامجه الداعية ل «الوحدة الجاذبة»... ها هي اجابته اذاً، و.. لا اكثر! ولعل ما يعزز الافتراض الاخير ان الدراما المحلية لم تكن من بين ما يشغل التلفزيون السوداني، فهو يرى ان شراء المسلسلات المصرية والسورية اقلّ كلفة وأعلى جودة من انتاج الدراما المحلية. وقد ظل يدفع كل الانتقادات الموجهة اليه برؤيته هذه، بل هو يفحم الدراميين المحليين قائلاً ان مسلسلاتهم لا تغري الشركات المعلنة! واخيراً، يبدو ان التلفزيون نقل عدوى «تفضيل ما يُنتج في الخارج» إلى الشركات السودانية المعلنة ذاتها، اذ باتت في غالبيتها تفضل انتاج اعلاناتها في الخارج أو تأتي بشركات الخارج إلى الداخل. وفاقم ذلك بالطبع الاوضاع المتدهورة لشركات الانتاج الاعلامي في الخرطوم، وهي كانت تتحايل على حال افتقارها الانتاجات الدرامية الكبيرة بالعمل في الاعلانات؛ وقد كان ذلك مفيداً للدراميين ايضاً فهو يتيح لهم فرصاً، أقل سوءاً، للعمل والرزق! اذاً، لم يبق للدراميين ما يمكن ان يدل على وجودهم الا الصفحات الفنية في المجلات والصحف. وهنا، وفي كل صباح، ثمة درامي ساخط على مدير التلفزيون وادارته المعنية بالدراما، وهناك من يبكي امجاد الماضي، وهناك من يعقد المقارنات بين بلد عرف الانتاج الدرامي في اربعينات القرن العشرين وآخر لم يعرفه إلا في التسعينات... وهكذا! لكنّ، كل ذلك وسواه لم يأت بجديد طيلة السنوات الماضية وظل الأمر أمرّ، كما يقال، على اجيال من الدراميين.. ظلوا عاطلين عن العمل إلا في تلك الأوقات الشحيحة التي يتكرم بها التلفزيون في الاعياد والمناسبات العامة للاسكتشات وفرق النكات! مع هذه الحال... المتقطعة حلقاتها والمنقطعة عن ركب التطور في العالم، هل يمكن للدراما السودانية ان تتكلم في غير ما يخصّ أوجاعها الشخصية؟ هل بمقدورها ان تتجاوز لعنة سنوات الغياب وبؤس الامكانيات لتحض، الآن أو في هذه الايام، سكان الجنوب على تغليب خيار الوحدة مع الشمال؟ لا يبدو ذلك منطقياً بالطبع ... ولكن - لنسأل - وما الذي كان منطقياً في ما حصل؟