إشتهرت الكاتبة الكرواتية سلافينكا دراكوفيتش ككاتبة مقالات سياسية ممتازة قبيل انهيار الاتحاد اليوغوسلافي السابق. وكانت صحف أوروبية كبرى تتسابق لنشر تلك المقالات التي تركز أغلبها على نقد الواقع السياسي في البلاد تحت هيمنة الحزب الشيوعي والإيديولوجية الماركسية. وحين انهارت يوغوسلافيا وتفككت إلى دويلات قومية، وجهت نقدها إلى التعصب القومي الذي سيطر على الجميع فأخذ رفاق الأمس يفتكون ببعضهم بعضاً وارتكبت المجازر وسالت الدماء. رأت الكاتبة في النزعة القومية طاعوناً مرعباً وأخذت تهاجم القيادات الشوفينية في صربيا وكرواتيا والبوسنة، الأمر الذي جعلها فريسة لحقد المتعصبين القوميين من كل الاتجاهات. وقد وصفها المستشار السياسي للرئيس الكرواتي السابق فرانجو توجمان بأنها عاهرة لا تتشرف كرواتيا بها. وتعرض بيتها للنهب على يد الغوغاء من المتطرفين القوميين. وعلى أثر ذلك اضطرت أن تغادر كرواتيا عام 1990 بعد أن اتهمتها الدوائر القومية المتعصبة بالخيانة. تعيش الآن في السويد، هي التي كانت ولدت في الرابع من تموز (يوليو) عام 1949 في رييكا في يوغوسلافيا. في كل نصوصها يخيم شبح الشيوعية وكابوس الحرب الأهلية، التجربتان اللتان تركتا كبير الأثر في حياة الكاتبة وغيرها من أبناء جيلها. غير أنها تركز على الجانب الفردي، الإنساني، بعيداً من الإطار الجيوسياسي والتحليل الاستراتيجي ومن دون الاكتراث للحدود الجغرافية التي أخذت تفصل بين الجماعات والقوميات التي شكلت يوماً الاتحاد اليوغوسلافي. كان والدها ضابطاً في الجيش الأحمر وعملت أمها في مؤسسات الحكومة الشيوعية. غير أن ابنتهما نشأت ناقدة للنظام الشيوعي وانضمت إلى المعارضة. في كتاب «كيف نجونا من الشيوعية بل وضحكنا»، تتحدث عن حياتها في ظل الشيوعية بأسلوب صحافي بارع حيث نجد أنفسنا أمام قلم جريء ونافذ لا يوفر جانباً من جوانب المجتمع من دون أن يخوض فيه ويستكشف أبعاده ويحلل آثاره على الناس بروح ساخرة ووصف بانورامي مدهش. «هولوغرام الخوف» أكثر كتبها قرباً من السيرة الذاتية وأشدها غوصاً في الواقع المحيط بها. يروي الكتاب قصة إمرأة كرواتية تعاني مرض تشمع الكبد ويتحتم عليها أن تسافر إلى الولاياتالمتحدة للعلاج، (كانت الكاتبة أصيبت بالمرض نفسه). هناك تتماثل للشفاء وفي هذه الأثناء تعود بها الذاكرة إلى الماضي، إلى العائلة التي بقيت هناك في أعقاب الحرب الأهلية الطاحنة، إلى صديقتها التي لم تتحمل الأهوال فانتحرت. أي شعور ينتاب المرء حين يدرك أنه مقيد بكل ما يفترض أنه يشكل له هوية وانتماء، بما في ذلك الشخصية والأهل والأصدقاء والمحيط الاجتماعي؟ إن أسوأ شيء في الهوية هو أنه غالباً ما يجرى تعريفها استناداً إلى المنبت القومي فقط. وفي رأي الكاتبة، فإن الهوية القومية مدمرة للشخصية. نص «كافيه أوروبا، الحياة بعد الشيوعية»، يتحدث عن الناس في أوروبا الشرقية، الذين عاشوا ويلات الشيوعية وحين سقطت أخذوا يدفعون ثمن استسلامهم لها وباتوا يعاملون كأناس من الدرجة الثانية. بعد خروجها من كرواتيا اتجهت إلى كتابة الرواية وبدأت بنص أليم بعنوان «س، رواية عن البلقان»، غير أننا نجد أنفسنا في استوكهولم حيث ترقد بطلة الرواية في المستشفى التي وضعت فيها وليدها لتوّها. من خلال «فلاش باك» متلاحق تعود البطلة القهقرى لتعيش من جديد ما كانت واجهته في حياتها السابقة ولتكتشف أن الوليد الجديد الذي قدم إلى الدنيا هو ثمرة علاقة غاصبة مع واحد من الجنود الصرب الذين كانوا تناوبوا على اغتصابها أثناء الحرب الصربية - الكرواتية عام 1991. تلقي الرواية الضوء على حياة البطلة س، التي هي نصف صربية، نصف مسلمة، وكانت معلمة مدرسة إبتدائية في قرية بوسنية حين ألقى الجنود الصرب القبض عليها وعذبوها قبل أن يمارسوا الرذيلة معها. غير أن أفضل نصوصها وأكثرها ألقاً ونضجاً هو بلا شك روايتها الأخيرة «سرير فريدا» التي ترصد فيها الحياة التراجيدية التي كانت الرسامة المكسيكية فريدا كالو عاشتها. هذا نص روائي باهر يمتلئ بالكثافة ويطفح بالقوة. على غرار كتاب أنطونيو تابوكي عن فرناندو بيسوا يروي هذا النص أحوال الرسامة المكسيكية في الأيام الثلاثة الأخيرة من عمرها فيغوص في أعماق الإنسانة التي بدت أقوى من الألم وأرسخ من الزمن. قضت فريدا كالو حياتها في المعاناة والعذاب. في صغرها أصيبت بشلل الأطفال. ثم تعرضت لحادث سيارة ودبت الغرغرينا في جسدها فبترت ساقها. تم بتر الأصابع ثم القدم فالساق كما لو أن المرض كان حيواناً يفتك بها ويريد التهامها. الكاتبة ترى حقاً في الألم المزمن ما يشبه تعرض المرء للالتهام وهو حي. ثمة وحش غير مرئي يقوم بالنهش في الجسد. لا يوحي المظهر الخارجي بشيء ولكن من الداخل يتعرض المرء للتجويف. وطاقة الكائن الإنساني على الاحتمال ليست من دون حدود. ثمة لحظة لا يعود الاحتمال فيها ممكناً: إما الانتحار وإما الجنون. حين يبدأ المرء يعاني الألم الجسدي يبدأ يكره جسده. هذا ما عاشته فريدا كالو. غير أنها لم تستسلم لقدرها ولم تصطدم بحاجز يحرمها من قوة الاحتمال. بقيت صامدة كسنديانة. وهي اختارت الرسم كطريقة للتفوق على المرض والألم والمعاناة. ساعدها في ذلك زوجها ورفيق دربها الرسام المكسيكي دييغو ريفييرا. غير أن مساعدة ريفييرا لم تكن من دون عواقب. معه عاشت فريدا ممزقة بين العشق والغيرة والوله والإعجاب. كان الرسام محط إعجاب النساء الكثيرات وكان على فريدا أن تشدّه إلى نفسها طوال الوقت. كان عليها أن تحارب على جبهتين: جبهة المرض وجبهة الحب. كان عليها أن تبذل المحاولات الحثيثة للفت انتباه زوجها إليها وكان على محاولتها أن تكون استثنائية وخارجة عن المألوف. وحين عجزت عن ذلك أخذت ترد على النار بالمثل. شرعت في نسج علاقاتها مع المعجبين والزوار من رجال الفن والأدب والسياسة، وبخاصة مع الثوري الروسي ليون تروتسكي المعادي لستالين، فيما كان دييغو ريفييرا ستالينياً حتى العظم. (ألهذا حاول دييغو فييرا أن يغتال تروتسكي؟ كي يتخلص من عشيق زوجته وخصم زعيمه في آن واحد؟). في لوحاتها الأخيرة أخذت فريدا ترسم إمرأة تشبهها تحنو على رجل طفل يشبه دييغو. صارت تجد في نفسها أماً بعدما فشلت في أن تكون حبيبة. عاشت فريدا في ظل الألم وظل دييغو في وقت واحد. كان الظلان يكملان بعضهما بعضاً. تفلح الرواية في تشريح خيانة الجسد حين يعج هذا الأخير بالألم ويتحول إلى قاطرة للعذاب تجري وتجر الروح معها. المرض الذي شد فريدا إلى السرير وربط جسمها بالأوجاع أوصلها إلى حافات اليأس والعجز في شكل مرعب. الألم الجسدي لا يقاوم اللغة وحسب بل يحطمها. المريض الذي يعاني من الآلام يتوقف عن الكلام ويبدأ بالصراخ. يعود إلى حالته الطفلية الأولى حين لم يكن قادراً على الكلام للتعبير عن دواخله. لهذا ثمة كلمات في كل اللغات تعبر عن هذا العجز تماماً. نحن نقول عن شيء ما: لا يمكن التعبير عنه، لا يمكن تخيله، إنه يفوق الوصف، إني عاجز عن التعبير. وهذا ما كانه بالضبط واقع الحال مع فريدا. الرواية أشبه برحلة في قلب الظلام، ظلام العذاب والمعاناة. وهي في الوقت نفسه وصف للدينامية الداخلية التي تمكنت فريدا عبرها من تخزين الأحزان لتستوي وتصير طاقة للخلق والابتكار والإبداع وتحول المرض من بشاعة تلتصق بالجسد إلى جمال يشع مع الفن. حين سمعت فريدا كالو من الشاعر أندريه بريتون أن ثمة سوريالية في فنها استغربت وقالت على الفور إن كل ما رسمته انبثق من وحي عالمها الواقعي. قالت إنها تجر العذاب من الأعماق وترفعه إلى الأعلى لتعرضه على سطح القماشة. لقد أرادت رسم الألم كجسد له يدان وعينان وقدمان. كان من الصعوبة التعبير عن الألم بالكلمات أو بالألوان، غير أن فريدا أفلحت في أن تجعل من فرشاة الرسم ما يشبه مبضع الجراح لتشق بطن الألم وتستأصل الأحشاء التالفة وتضع بديلها ألواناً عامرة بالعافية. الرواية محاولة للسير بمحاذاة الألم والاقتراب من القدر الإنساني بالرسم. هذه الرواية أكثر من سيرة لفريدا. إنها نص إبداعي مشع وإن كانت بطلته شخصية تاريخية معروفة.