قلّ أن حظيت مدينة في العالم بما حظيت به إسطنبول من حضور التاريخ وسحر الجغرافيا وتميز الموقع والدور. فهذه المدينة التي بناها الإغريق في القرن السابع قبل الميلاد وتقلبت أسماؤها بين بيزاس وبيزنطة والقسطنطينية وروما الجديدة ومدينة الإسلام ودار السعادة وإسطنبول والآستانة، وفقاً لتبدل الفاتحين والأدوار، تمتلك جمالاً وفرادة يصعب أن تجاريهما مدينة أخرى. ولم يكن محض مصادفة أن تتحول المدينة إلى قبلة دائمة لأنظار الغزاة والطامحين، قبل أن تسقط بين يدي السلطان العثماني محمد الفاتح ويتخذها سلاطين بني عثمان اللاحقون عاصمة لدولتهم المترامية. وهي الوحيدة في العالم التي تتربع على قارتين اثنتين، مع كل ما يستتبعه ذلك من مشقة المواءمة الصعبة بين الثقافات والمفاهيم المتباعدة للشرق والغرب. وإذا كانت هناك مدن شتى على ظهر الكوكب لا يجد المرء دافعاً كافياً لزيارتها والتعرّف إلى معالمها، فإن الأمر مع إسطنبول مختلف تماماً، لأنّ ما توفره المدينة لزائرها من متع بصرية واتصال بأصوات الماضي ومعالمه التراثية الحية، يصعب أن توفره له مدينة أخرى. ولهذا السبب على الأرجح ينسب إلى نابليون بونابرت قوله «لو كان العالم كله دولة واحدة، لوجب أن تكون عاصمته إسطنبول». كان من الصعب تبعاً لذلك أن لا ألبي دعوة المدينة، التي لم تسبق لي زيارتها من قبل، للمشاركة في مهرجانها الشعري الذي شاء منظموه المؤسسون قبل سنوات أربع أن يطلقوا عليه اسم «إسطنبولنسيس»، تيمناً «بالزهرة الأكثر دلالاً في المدينة وضيفة جبل آيدوس الظريفة التي يليق بها أن تعيش كالشعر»، وفق ما جاء في الكتاب التعريفي للمهرجان. وقد شاءت بلدية سلطان بيلي، الراعية لهذا الحدث الثقافي البارز، أن تجعل من الهجرة والنزوح عنواناً رئيساً للدورة الحالية، طالبة من الشعراء المشاركين أن يختاروا من بين نصوصهم ما يتواءم مع موضوعة المنفى بأبعادها المختلفة، أو ما يعبر عن العلاقة بالوطن والمكان والحنين إلى الجذور. وربما كانت خلفية الصورة المقترحة على الشعراء متصلة بشكل أو بآخر بالطفل السوري إيلان، الذي أحدثت صورته غريقاً على الشواطئ التركية هزّة عميقة الارتدادات في ضمير العالم بأسره . إضافة إلى الاهتمام الموازي بأطفال فلسطين، وغزة على نحو خاص. وإذا كان من غير المستحب أن توضع مشاركات الشعراء تحت شروط وعناوين محددة سلفاً، فإن ما يخفف من وطأة هذه الشروط هو أن الشعر في جوهره هو هجرة رمزية للكلمات التي لن تدخل في خانة الإبداع ما لم تغادر دلالاتها المعجمية الأصلية بحثاً عن مواطئ جديدة لدلالاتها ومعانيها. وبهذا المعنى يصبح شعر المنفيين والمهاجرين غربة داخل الغربة ومنفى في المنفى، كما عبّر الناقد العراقي محسن الموسوي في المداخلة النقدية الوحيدة التي قدمت في المهرجان. أما الضيوف المدعوون فكان عددهم ستة عشر شاعراً، موزعين بين الهند والصين وبريطانياوفلسطين وأذربيجان ولبنان والعراق والقرم وسوريا والبوسنة والصومال وكينيا وجنوب أفريقيا والصين، إضافة إلى اثنين وعشرين شاعراً تركياً. ولا بد من التنويه بالكتاب القيم الذي أعده القيمون على المناسبة والذي ضم ترجمات للنصوص المقدمة باللغتين الإنكليزية والتركية تولاها عدد من المختصين، من بينهم المترجم والباحث التركي جنكيز تومار الذي ساهم بحضوره الدمث والمتواضع في إنجاح هذا الحدث الثقافي، والمترجم والناقد البارز محمد حقي صوتشين الذي اعتذر عن عدم الحضور لارتباطات ثقافية أخرى. لم يكن فندق بيوتيل الذي نزل فيه الشعراء الضيوف ليشي بأي نوع من الفخامة الباذخة، غير أنه كان أقرب إلى الفنادق الحميمة التي تبعث على الارتياح. أما المسافة بينه وبين القاعة الفارهة التابعة لبلدية سلطان بيلي، حيث انعقدت أمسيتا الافتتاح والختام، فكان قطعها بالحافلة يستلزم قرابة ساعة من الزمن. كان الحفل الافتتاحي حافلاً بالحضور، حيث أعقبت الكلمات الرسمية لرئيس البلدية حسين كسكين ورئيس اللجنة المنظمة الشاعر أوزجان أونلو، قراءات متفاوتة الأهمية لشعراء متعددي الجنسيات والمشارب. وحين اختار المنظمون تكريم الشاعر التركي المخضرم جاهد كويتاك، بدت قصائده أقرب إلى الواقعية والمقاربة الإنسانية البسيطة للعالم منها إلى مناخات الحداثة المعقدة . وهو ما جعل شعره يلاقي صدى واسعاً لدى شرائح واسعة من الجمهور التركي : «أثناء بحث الأطباء عن علاج للسرطان/ أدعو في الوقت نفسه/ أن يجدوا دواء لسفالة الناس وتنازعهم/ وتحولهم إلى ذئاب». ثم تعاقب على القراءة الشاعر التركي علي أورال الذي اتسمت قصيدته «لدي سبعة أزواج من الأحذية» بنبرة من الهجاء الساخر والمفعم بالمرارة لخواء المدن الحديثة، والشاعر السوري الكردي المقيم في بريطانيا أمير درويش الذي تحدث عن «موتى السردين في بطن البحر المتوسط»، والصيني مختار بوغرا الذي تحدث عن وحدة الشاعر في العالم، والعراقي التركماني شمس الدين كوزيجي الذي قرأ قصيدة عاطفية عن «حب الوطن»، والشاعر الصومالي عبدالله بوتان الذي تحدث عن «الأعداد المتراكمة التي تمنح الثقة»، والتركية إنجي أوكوموش التي رأت في الهجرة «حسرة مصابة بالسل/ تزيد الأنين مع الزمن»، والبريطاني روغان وولف الذي قرأ قصيدة عن «أحلام أوروبا الوسطى الليلية». في بهو الكنيسة القديمة المجاورة لقصر توبقابي الشهير انعقدت الأمسية الثانية من أمسيات المهرجان الثلاث. وبدا المكان المهيب والمفعم بعبق التاريخ أكثر من نموذجي لوقوف الشعراء على منصة القراءة، وهو ما دفع أحدهم إلى القول إن الشعر الذي بدأ في المعابد يعود الآن ثانية إليها . بين المشاركين في تلك الأمسية كان التركي بختيار أصلان الذي تجاوز الموضوع المباشر للمهرجان ليدخل في عوالم التصوف وكشوف الداخل حيث» تتمدد الأقراط صامتة مثل قطرة ماء». أما البوسني جمال الدين لاتيتش، الذي ناضل وسجن بجانب الرئيس علي عزت بيغوفيتش، فكانت قصيدته أقرب إلى البيان السياسي منها إلى المغامرة الابداعية. وبعدما قرأ كاتب هذه السطور قصيدة بعنوان «سأحمل صوتك المكسور» قرأت الشاعرة التركية إلتشين صوتشين بنبرة إنسانية بعيدة من الخطابة، نصاً بعنوان «لعنة التدجين» حيث «النساء ينمّين القلق والخوف/ كما ينمين أزهار إبرة الراعي والقرنفل أمام النوافذ»، عاد الصومالي محمد إينو بالذاكرة إلى العبيد الأفريقيين الذين سيقوا بقسوة إلى الطرف الآخر من المحيط، وقرأ التركي مراد صوياك قصيدة عن بيوت اللاجئين المفقودة، واستعاد مواطنه رضوان جانيم الذكرى المؤلمة لهجرة البلقان الكبرى. الشاعر الجنوب أفريقي شابير بانوبهاي تمكن، على بساطة أسلوبه، من حبس أنفاس القاعة من خلال قصيدته عن الطفل الغريق الذي أغرق معه العالم. وكما في الليلة الأولى، اختتمت الأمسية بوصلات من الغناء التركي المفعم بالعذوبة والشجن، والذي ترك بصماته الجلية على الموسيقى اللبنانية والعربية، بحيث تعرف العرب القلائل الحاضرون بشكل واضح على لحني «البنت الشلبية» و «حوّل يا غنّام» من دون أي تعديل. لم يكن بالأمر اليسير على المرء أن يخير بين حضور الحفلة الختامية التي قرأ فيها شعراء وحضرها وزير الثقافة الجديد، وبين التعرف إلى معالم المدينة التي يحتاج سبر جمالاتها إلى شهور طوال. وعلى قِصَر الرحلة وكثافة برنامجها الشاق، كنت أتيقن ساعة بعد ساعة من أن هذه المدينة لم تتربع على عرش العالم بمحض المصادفة وحدها، بل لأنها درة المدن وواسطة عقد القارات والمجسم الأرضي الأكمل لحاجة الفن إلى التحقق في مكان ملموس يتحد فيه الزمان بالمكان، والزرقة النهرية للبحر بالخضرة المترامية للفضاء الريفي، واللقى المدهشة للحاضر بالكنوز المحلومة لتراب الفقدان. وعلى رغم أن المدينة حظيت باهتمام العشرات من الروائيين والشعراء فلم أجد وأنا أستعيد جمال البوسفور ما أختم به هذه المقالة أفضل من المطلع المدهش لقصيدة جهاد الزين الطويلة عن إسطنبول «خبّرتني زوجة البحار أن البحر ليس الماء/ كلُّ من ظنوه ماءً غرقوا».