استفزني مقطع فيديو منتشر في مواقع «الانترنت» و«اليوتيوب» لمنظر رجل عربي، وأظنه بالتحديد خليجياً، يجلس بجوار مغنية في ملهى ليلي، وخلال مدة العرض التي تزيد على 10 دقائق لم يتوقف الرجل عن «التنقيط»، أو تطيير الأوراق النقدية على المغنية وبكميات هائلة، بحيث لو تم جمع ما تم بعثرته من مال سيزيد على الملايين، كان المنظر مقززاً ومستفزاً للمشاهد، قال لي صديق في «الفيس بوك» إن هذا الرجل بالتأكيد ليس رجل أعمال، قلت متسائلاً، كيف عرفت؟ مع ان مقطع الفيديو ليس فيه صوت للرجل، كما ان ملابسه العربية التي يرتديها لا تكفي للحكم عليه انه رجل بسيط أو رجل أعمال أو حتى من عامة الناس؟ أجابني صديقي وهذه المرة أفحمني: أنت رجل اقتصادي وتعلم أحوال الأسواق العالمية، «اليورو» كان متراجعاً في الأسابيع الماضية، والدولار مرة ينخفض ومرة يصعد بفعل الين الياباني، أما اليوان الصيني فقد حقق ارتفاعات جيدة منذ ان أعلن فك ارتباطه بالدولار، وفي المقابل اليونان أعلنت إفلاسها كبلد، وفي الوطن العربي الأزمة المالية عصفت بكثير من الشركات والمؤسسات وسرحت عمالتها وخفضت رواتبهم لمواجهة الأزمة وتسديد الديون، والقطاعان الخاص والمصرفي هما أكثر المتضررين، فهل تريدني أن أصدق ان الذي يجلس وينثر هذه الأموال هو رجل أعمال؟! قلت له: إذن هذا مواطن يريد ان يرفه عن نفسه، وما هذه المبالغ إلا جهده وعرقه الذي أمضاه في الوظيفة، ولكن يا خسارة ضيعها في ليلة واحدة. صديقي أرسل لي ضحكة مكتوبة، فعرفت أنه لم يعجبه كلامي، واصل قائلاً: الموظف البسيط الذي يكد على عياله ويجمع القرش فوق القرش، لا يأتي إلى هنا، حتى وإن حضر يكتفي بالمشاهدة والاستمتاع بالطرب من باب الترفيه وربما لن يعود إليها إلا في ما ندر. لن أدخل في مسألة الحلال والحرام أو الإسراف وتضييع «النعمة»، ولكن حقيقة لم أشاهد هذه المناظر إلا في الملاهي العربية أو الصالات التي يحضرها الخليجيون في دول آسيا، إذ يحاول الكثير منهم الترحيب بهم بطريقة واضحة على أنها مشروع تنظيف جيوب، وأن غبياً حضر وسطهم سيتم استغلاله بكل الطرق المشروعة من إغراء أو مدح لبلده أو مدينته التي يسكن فيها أو حتى بأغنيات خليجية محببة. لست ضد سعة الصدر و«الوناسة»، ولكن في حدها المعقول، وفي أحيان كثيرة تتحول هذه «الوناسة» إلى صورة «مقرفة» وتعكس سلوكاً مزدوجاً لبعض أفراد المجتمع، أسوق هذا الكلام ونحن في أول الصيف، وهو بالنسبة لبعض الخليجيين والأثرياء العرب موسم هجرة الأموال بطريقة ساحرة وعجيبة إلى مسارح الرقص والملاهي الليلية والإنفاق المسرف، هل لكم أن تخبروني لماذا هذه المشاهد فقط نراها في وطننا العربي وبعض الدول الآسيوية التي شوه صورتها الخليجيون «بالتنقيط»؟ فأصبحوا يرون ان كل مواطني دول الخليج أثرياء حتى وإن كنت ممن «يقز الشوارع قزاً» بحثاً عن الوظيفة ولا تملك منزلاً، وعاطل منذ ان انهارت شركات التأمين والرهن العقاري في الولاياتالمتحدة الأميركية، ولديك «قرشين» تريد ان ترفه بها عن نفسك وأسرتك «يحاصرك» جميعهم ابتداءً من المطار وموظفي الجمارك، يقفون لك احتراماً لجيبك، انتهاءً بعامل حمل الحقائب، في مخيلتهم ذلك الرجل الذي كان يرمي بنقوده في الهواء ومن خلفه يركض عمال المقهى ليلتقطوا ما سقط، وإذا ركبت سيارة الأجرة تبحث عن فندق طلب منك سائق التاكسي أضعاف ما يأخذه من الأوروبي أو الأميركي أو أي جنسية أخرى، إلا الخليجي يجب ان تسلخ جلده، وتستخرج من جيبه «آخر قطرة نفط»، والحال هكذا في كل مكان تذهب إليه، المشاهد السلبية والسلوكيات الخاطئة التي يتصرف بها السائح الخليجي في الخارج أعطت انطباعاً غير جيد، وصورته انه منغمس في هذه الأعمال، وغير مكترث بما يحدث في مجتمعه وليس لديه إحساس أو شعور بالمسؤولية، بالطبع هذه السلوكيات تنتج من البعض وقلة، إلا ان هؤلاء القلة عكسوا صورة غير جيدة فأثر على البقية، ولا تستغربوا حينما تسمعوا أو تقرأوا ان أسرة خليجية فقدت ساعتها الثمينة أو سرقة بطاقات ائتمانية، أو ابتزاز من اجل الحصول على المال، ولا تستغربوا أيضاً إن شاهدتم صوراً في «النت» عن سيارات آخر موديل مرصعة بالذهب والماس واقفة أمام مطعم تعود ملكيتها إلى احد الأثرياء أوقفها من اجل أن يتباهى بها. الوضع الاقتصادي الذي يعيشه العالم، ليس بعيد عن الخليجيين، وحال الفقر المنتشرة في هذه الدول واضحة للعيان، هناك بطالة وعنوسة ومتقاعدون ومشكلات اجتماعية وصحية، وتدني البُنى التحتية وضياع حقوق المواطنين وكل هذه المآسي، فضلاً عن التطور الحضاري والفكري الذي يعيشه المواطن الخليجي، إلا ان عقليته تجاه السياحة و«الوناسة» لم تتغير، بقيت كما هي. في رأيي، مادام البعض يحب ان يمارس هذه السلوكيات الخاطئة في سفره وترحاله وفي إقامته وتجواله، أقترح ان توزع إدارات الضمان الاجتماعي ومكاتب العمل في الدول الخليجية على مواطنيها «الغلبانين» بطاقات للذين يرغبون في السفر إلى الخارج في الصيف، تطلب فيها من حكومات هذه الدول ان تشفق على حال حامل هذه البطاقة وتعامله على انه موظف بسيط وعليه أقساط وديون، وإيجار شقة، ولديه ملفات طلب عمل في أكثر من شركة وجهة حكومية، وإذا بدر منه أي تصرف يعكس ما يثبت ذلك عليها مشكورة ان تعيده إلى البلاد في أول رحلة ليتم تأديبه. * إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected]