في الدول الإسلامية يعيش كثير من فاقدي البصر على حفظ القرآن عن ظهر قلب ليصبحوا مقرئين محترفين في المناسبات الاجتماعية المختلفة بغض النظر عن إمكاناتهم الصوتية. الشيخ أحمد محمد برين كان فقيراً وفاقداً للبصر وحفظ القرآن عن ظهر قلب، بل ودرس في جامعة الأزهر، وله صوت مدهش. لكنه لم يعمل مقرئاً، بل أنشد وغنى وروى سيراً شعبية. مع ذلك أطلقوا عليه لقب شيخ، فهو يُطلَق على كل من حفظ القرآن وقرأه أو أنشد نصوصاً دينية. عرفته متأخراً من دون أن أراه. كنت في متجر معروف لبيع التسجيلات الموسيقية في وسط العاصمة الإيطالية قبل 14 عاماً عندما كنت مديراً للأكاديمية المصرية للفنون في روما. وجدت سي دي من إنتاج أجنبي عليه صورته واسمه، فاشتريته وأنا لا أعرفه. فاجأني صوته مفاجأة تامة ووقعت في حبه فور نطقه ب «ليالي». إنه من هذه الأصوات القليلة جداً القوية العريضة اللينة العميقة العاطفية. معادله الأنثوي عندي يقترب من أم كلثوم. أثار فيَّ شجناً وحنيناً شديدين. ذلك أنني ولدتُ وتربيت في منفلوط من أعمال صعيد مصر. وعيتُ في طفولتي على فرقة صغيرة كانت تأتي أحياناً إلى المقهى المواجه لبيتنا في شارع «الجمهورية». كانوا يجلسون القرفصاء على دِكَّة. ثلاثة يتوسطهم منشد يحمل «رقاً أو مزهراً» وعن يمينه عازف على النقرزان وعن يساره عازف على الدُف. ينطلقون في مديح النبي محمد والصحابة. ومرة أتى البقال الذي كان يسكن في حجرتين في الطابق الأرضي في بيتنا بفرقة أخرى لتحيي ليلة نسيتُ مناسبتها. وكانت مثل هذه الفرق منتشرة في كل «بلاد» الصعيد. ذكَّرني أداء الشيخ أحمد برين وفرقته في هذا التسجيل بطفولتي وصباي في ليالي منفلوط الساحرة التي ترسبت في وجداني وشكَّلته. وما زالت أصوات الآلات الشعبية هناك تأسرني: الربابة والنقرزان والرق والدف والمزمار. إنه صوت عبقري. يصفونه بالمنشد، ولم يصفه أحد بالمطرب رغم غنائه، وعلماً بأن صوته من أطرب الأصوات. وفي الغرب وصفوه بأنه من أهم مؤدي الأغاني الصوفية. وعندي أنه كل هؤلاء وأكثر. إنه ظاهرة صوتية فنية ساحرة من روح مصر. في أوائل العام الماضي فكرتُ في كتابة كتاب عنه، ليس فقط بسبب صوته وأدائه، بل أيضاً لكلماته التي يحفظها أو يرتجلها. كنتُ قد نشرتُ سلسلة من المقالات منذ بضع سنوات في جريدة «المصري اليوم» القاهرية بعنوان «قبس من روح مصر». قامت على نشر وثائق مكتوبة ومصوَّرة لعدد من أهم فناني مصر في فروع شتى، ونشرتُ مقالين هنا في «الحياة» ضمن هذه السلسلة عن أم كلثوم وعبد الوهاب. في ما بعد وجدتُ أن الشيخ أحمد برين يدخل في قلب هذه الروح، فهو بصوته وأدائه وكلماته قبس من روح مصر. هو يجسد تلك الروح. روح مصر الأصيلة التي تضيع الآن ومنذ سنوات، حتى أظن أنه لن يبقى منها شيء بعد بضع سنوات إن لم يأت من ينقذها. سألتُ صديقاً مهتماً يعرفه أن يدبر لي لقاءً معه. فأجابني بعد فترة أنه مريض في بلده. لكنه، الصديق، مستعد أن يسافر معي إليه. وافقت وانشغلت وسافرت في الصيف الماضي في رحلتي السنوية إلى أوروبا. هناك جاءني خبر وفاته في بداية تموز (يوليو) فأصابني غم. اليوم أرى أن الكتاب عنه بعيد فأتقرب إليه، من دون مناسبة سوى أنه من روح مصر، بهذا المقال لعله يكون مفتتحاً. المشكلة في هذا المقال لغير المصريين هو فهم كلمات الأغاني. فهي ليست مصرية فقط، لكنها صعيدية صميمة من لهجة أهل جنوب مصر وبالأخص الإسناوية (من إسنا). أحاول حلها هنا بإضافة شرح فصيح مختصر. كانوا ينادونه ب »أبو محمود». هناك تضارب في تاريخ مولده، بين عام 1944 وعام 1938، لكن الأرجح هو ما نشرته جريدة «ليبراسيون» الفرنسية من أنه ولد عام 1939، في قرية «الدير شرق» قرب مدينة إسنا في محافظة الأقصر. تسمت قريته بهذا الاسم لوجود دير للرهبان الأقباط (الأرثوذكس) فيها. أثَّر وجود هذا الدير في ما يبدو في الشيخ برين، لأنه حفظ إنشاداً قبطياً، بل وأحيا ليالي في مناسبات قبطية، مثل مولد السيدة العذراء في الدير المسمى باسمها في قرية «درنكة» بالقرب من مدينة أسيوط. بل واستخدم آلة «المثلث» التي تستخدم في العزف الكنسي بين آلاته. في عمر الثانية عشرة تعلم أسرار الإنشاد الديني من الشيخ سليمان حسين الذي كان مشهوراً في بلاد الصعيد. بعد ذلك التحق أحمد برين بجامعة الأزهر ودرس أصول الدين. هكذا هو المغني والمنشد الوحيد، على حد علمي، الذي أنشد القبطي والإسلامي جامعاً بين ضفتي «الفن المقدس» الغنائي المصري. لذلك ودَّعه في جنازته الآلاف من المسلمين والمسيحيين معاً. فقد بصره في عمر الثالثة ولا أعرف ملابسات ذلك. فخلق له ذلك الفقد قدرة على الرؤية بالإحساس. عندما زار مدينة قديمة في المغرب قال: هناك ضوء كثير هنا! كان يغني عادةً بمفرده. لكنه غنى مع ابن أخته محمد العجوز. غنيا معاً عملين طويلين «السفينة وفرش وغطا». أقول عمل لأنني لا أعرف بماذا أصف أعماله، فليست بالأغاني ولا الأناشيد بمفهومهما التقليدي، ولكنها أقرب إلى «الملاحم الغنائية». وككل المطربين يتأثر بتجاوب الجمهور معه، لكنه يزيد ويرد على تعليقاته أحياناً، وأحياناً يغير من كلماته أو أدائه مرتجلاً، تجاوباً. تجد نفسك بين أصوات الشيخ وآلاته الموسيقية وجمهوره فتنتشي. ابن قرية الدير هذا خرج إلى العالم ونقل فنه إلى شعوب مختلفة مُحَملاً بتراثه وروح مصر. ذهب إلى فرنسا للمرة الأولى عام 1985 للمشاركة في «أيام الموسيقى العربية» في مدينة نانتير. كما أحيا حفلات في مدن أوروبية وعربية أخرى. وصدرت له في أوروبا أسطوانات عدة، منها ما أصدره معهد العالم العربي في باريس عام 2003 بعنوان «أغان صوفية». عنده قدرة كبيرة على الارتجال في نسيج اللحن والكلمات بما يناسب الموقف أو الحالة التي يغني فيها. مولع باللعب بالكلمات. عندما ذهب إلى المغرب عام 2000 وأنشد أغنيته «الليل» التي اعتاد غناءها، أدخل في وسطها تحية للمغرب: «بكتابي أنا أكتب بجلمي (قلمي) أنا أكتب. كام أوصف وكام أعرف. ألفين تحية للمغرب اللي سكنوها رجال الليل». هو الوحيد في ما أذكر الذي مزَج الديني بالغرامي. غنى مخاطباً الحبيبة: «عايزلي يوم زين ومعاكي أجيم (أقيم) الحد، واتحاسب أنا وأنت في الجبال تاكلنا النسور والحد « أي الحدأة، «واجرا (أقرأ) عليكي قل هو الله أحد. لأنك ما فايتاش ولا حد». صوته قوي مضيء. يبزغ الضوء فور أن يرفع عقيرته. تغطي عينيه أحياناً نظارة سوداء كبيرة، ينظر إلى السماء، يقوده ناي في حنان لا ينتهي، يعلو تضرعه حتى يخترق آذان المستمعين المذهولين، إنه الطرب، إنها النشوة. لماذا هو قبس من روح مصر؟ ليس فقط لأن صوته مصري جنوبي صميم، ولكن لكلماته أيضاً. فهو يعبر عما هو أصيل في هذه الروح. يحتاج كلام أعماله إلى دراسة خاصة في إطار البحث عن روح مصر. كلامه مزيج عبقري بين الدنيا والدين. يبدأ مثلاً بمدح الرسول ليدخل في مدح الحبيبة. ومزيج عبقري بين التراث والتأليف والارتجال والعربية الفصحى والعامية المصرية الجنوبية. اسمع مثلاً مطلعاً له يقول: «أمانة يا عمي إن باعوك ليلى فخذها لي، بروحي وعقلي وجسمي وملكي وكلي ومالي. وإن طلبوا زيادة فزدهم بيميني، وإن شحوا عليك شمالي». وهو يؤدي هذا المقطع على طريقة تجويد القرآن بلا آلات، بصوت يقترب منه صوتُ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد. ثم يكمل بالطرب الشعبي: «ياليل ياليل ياليل، ع الباب أنا ذليل». المدهش أن له روايته الخاصة لما يأخذه أو يستوحيه من الدين أو التراث. في قصة النبي يوسف مثلاً يهتم الشيخ بامرأة العزيز التي حاولت إغواء يوسف، هو يتعاطف مع ضعفها إزاء جمال النبي! يغني عنها: «من يوم نظرتك (رأيتك) جرى إيه ملابسها.. شاغل فؤادي جرا لي إيه ما لي أسهى» أي أسهو. أحياناً ينحو منحى أخلاقياً، وأحياناً يغني الحِكَم. ففي العمل نفسه: «إن باعوك ليلى»، الأشبه ب «قصيد بريني» على نحو «قصيد سيمفوني»، يقول: «الممسك اللي عمل حراس (حارس بفتح الحاء) على ماله، من كتر بخله ترى في الوجه علامه (علامة)، عمره ما جالس خطيب دلاه (عرفه) على ماله، أجول (أقول) كلمة الحق وبعد ما أجول لمونة (أمسكوا به)، ليه يا خلايج (يا خلق) عشان الحق تلومونا، ده (هو) في طلعة الروح يجول (يقول) نفسي في لمونة (ليمونة)، بيشحت لمونة وما يجيبهاش (لا يشتريها) من ماله». لكني أنهي بحكمته في رائعته «يا علبة الصبر»: «إحنا سمعنا رواية من أهالي الفن، كل اللي سهروا الليالي جسمهم مبلي».