ينسف موقع «شات روليت» Chat Roulette علاقة الفرد مع محيطه الاجتماعي وأصدقائة، كما يطيح بذاكرته وتجاربه الخاصة! وعلى عكس «فايسبوك» والشبكات الاجتماعية، يغري «شات روليت» الشباب بعلاقات هوائية مع... المجهول. وراقت فكرته لأجيال الشباب غرباً. وتقاطعت مع ممارسات هوائية مماثلة مثل «السينما السرية»! قبل أيام قليلة، ظهر تقرير إخباري لا يخلو من المرح على شبكة «سي أن أن»، يتحدث عن أحدث الصيحات المتصلة بالإنترنت (خصوصاً الشبكات الاجتماعية) في بريطانيا: السينما السرية Secret Cinema! لا يتعلق الأمر بثقافة معارضة تعمل بخفاء تحت الأرض، ولا بقاعات تعمل بعيداً من عيون الرقابة. المسألة تتعلق ب «صرعة» خلبت لبّ مراهقي بريطانيا، تتمثّل في أن تصلهم دعوة لحضور فيلم سينما لا يعرفون اسمه، بل لا يعرفون أين يعرض! تحمل الدعوة عنواناً لمكان معين، وتطلب منهم الاستعداد للمشاهدة، بطريقة توحي بأجواء الفيلم. وعند وصولهم الى ذلك المكان، يجدون مزيداً من التلميحات عن الفيلم، إضافة الى أشخاص يدلّونهم على مكان العرض. ولا يعرف المشاهد الفيلم إلا عند إطفاء أنوار القاعة وبداية العرض. وأجرت شبكة «سي أن أن» لقاءات مع مجموعة من الشباب المغرمين بهذه السينما السرية. وتبيّن ان أشد ما يجذبهم ويفتن تفكيرهم هو... المجهول! من دون معرفة مسبقة، تغدو الإثارة أكبر، بحسب رأي هؤلاء. «شات روليت»: فتنة المجهول يبدو أن شيئاً كثيراً من فتنة المجهول في هذه «السينما السرية»، حاضر في الشبكات الاجتماعية. وأخيراً، ظهر موقع يجمع فكرة المجهول مع أشياء مثل المعابثة التي قد يراها البعض عبثية أيضاً. ويحمل الموقع اسم «شات روليت» Chatroulette. ويجمع الاسم ممارسة الدردشة عبر الانترنت، التي أثارت كلاماً كثيراً، مع إحدى ألعاب الميسر. ويندرج هذا الموقع ضمن لائحة الشبكات الاجتماعية. ويرتكز عمل الموقع على مزيج فريد من نوعه، يجمع بين السرية والعشوائية، عبر خيط قوامه فتنة المجهول! إذ لا يشترط «شات روليت» الإعلان عن اسم المشترك الحقيقي (على عكس ما تفعل الشبكات الاجتماعية مثل «فايس بوك» Face Book و «تويتر» Twitter)، ويعرض عليه عقد لقاءات عشوائية عبر كاميرا الويب، بمعنى اللقاء مع أشخاص يجرى اختيارهم بطريقة عشوائية، كما يكون الحال في لعبة الروليت. تأسّس هذا الموقع على يد الطالب الروسي أندريه ترنوفسكي في أواخر عام 2009، وحينها كان صاحبه في السابعة عشرة من العمر. ويقصد الموقع راهناً قرابة 1.5 مليون زائر يومياً، بينهم حفنة من المشاهير، ما وضعه في ضمن المواقع ال500 الأكثر ارتياداً. على واجهة الموقع لا يوجد عملياً، سوى شاشتين. تظهر صورتك في الشاشة السفلية، ومُحدثك الذي تختاره عشوائياً من وجوه عابرة، في العليا. يشبه الأمر لعبة ركوب الأمواج. وبمجرد أن تضغط على زر «التالي» في تلك الواجهة، يختفي محدثك، الذي سيقرأ عبارة «انتم خارج الاتصال»، فيما تنطلق أنت في دورة جديدة من الاختيار عشوائياً. ولا يفرض الموقع بروتوكولا من أي نوع على المستخدمين، ولا يحدد شروط «الانتساب» إليه. إذ يشدد على الخفاء، انسجاماً مع فكرة المجهول، وعدم الكشف عن الهوية. ولا يزال «شات روليت» مجانياً، إذ يصرح القيّمون عليه بأن تمويله يأتي من بعض المعلنين الكبار على الإنترنت. في المقابل، يثير «شات روليت» قلقاً كبيراً. إذ يمسّ النظام النفسي الاجتماعي، عبر ممارسات مثل تحريض المستخدم على العدوانية، بإغرائه بأنه قادر على «اقتحام» عشرات الأشخاص المجهولين عبر «فتح شاشتهم». وبذا يصبح المستخدم مقتحماً «زابر» zapper، ما يؤثر لاشعورياً على نفسيته. وتزيد السرعة من حدّة العنف، إذ لا يملك «المقتحم»، في أغلب الأحيان، الوقت اللازم للتمعن في ملامح وجوه الذين «اقتحمهم». إذ صحّ هذا الأمر، يصبح من المستطاع وصف «شات روليت» بأنه أول شبكة ضد اجتماعية، تفكك بخبث أواصر الحسّ الانساني، بحيث تصبح اللقاءات العشوائية نوعاً من الوسواس القهري الذي يحضّ على تكرار العدوانية مع الآخرين ب «اقتحامهم» واحتقار إرادتهم. يرى كثيرون ان هذه العدوانية الكامنة في البُعد «الاقتحامي» للقاءات العشوائية، يشكّل ركيزة عمل هذا التلفزيون العالمي. الأرجح أن موقع «شات روليت» شجرة تخفي غابة عملاقة. وتضمّ ثنايا الغابة حشداً متنافراً من عامة الناس، الذين يستبعد أن تتقاطع سبلهم في الحياة الفعلية: شبان أميركيون مخمورون، مدبّرة منزل من بيرو، قبطان يشد رأسه بعصبة، طالب باريسي بوهيمي الطباع، مطربون في أمسية، بعض متنكري الوجوه المتقافزين بلا ضوابط وغيرهم. من يحمي الأطفال؟ وسط هذا الحشد، تتوالى السلوكيات غير القانونية بإيقاع جهنمي: النيل من السمعة، هتك الخصوصية، عدم حماية القاصرين، إباحة الصور، التمييز العنصري ونشر الكراهية وصنع النماذج الجاهزة عن «الآخر» وغيرها. ثمة خطر كبير يواجه الأطفال خصوصاً، يأتي من احتمال استدراجهم لرؤية مشاهد خشنة أو عنيفة، أو الخوض في محادثات غير مناسبة مع أشخاص «مجهولين». تعلن واجهة «شات روليت» أن استخدام الموقع مشروط ببلوغ الزائر سن السادسة عشرة، لكنه إعلان شكلي على الأرجح، إذ لا يوجد إجراء رقابي يضمن تنفيذه تقنياً. والحق أن العشوائية المطلقة التي تتحكم في نسج العلاقات عبر هذه الشبكة الاجتماعية (أو الضد - اجتماعية) تزيد من مخاطر وقوع القاصرين في البراثن الرقمية لبعض الفاسدين. ربما يخفف من هذه الوطأة إدراج «شات روليت» على لائحة المواقع الخاضعة للرقابة العائلية، ولكن تقنيات الانترنت تمنح حتى القاصر إمكان تخطي هذا الإجراء الرقابي. ويزيد في سهولة التخطي، غياب سجل لحسابات المستخدمين على هذا الموقع. ولعل الممكن الوحيد هو حجب «شات روليت» لعشرات الدقائق، عبر بعض البرمجيات التي تراقب رقم كومبيوتر المستخدم. من ناحية اخرى، تبدو حقوق ملكية الصور في حال مزرية بسبب انتهاكها باستمرار على «شات روليت». ويجد بعض المستخدمين أن صورهم صارت مادة منشورة على مواقع مثل «يوتيوب»، أو أنها تظهر تكراراً على «شات روليت»، من دون إذنهم، بل من دون أن يفكروا بهذا الاحتمال. في الآونة الأخيرة، طفا على السطح موقع «خرائط شات روليت» Chatroulette Maps. يهدف هذا الموقع لاستخراج المستخدمين المجهولين، ونشر صورهم، وتحديد مواقعهم جغرافياً بمساعدة تقنية الخرائط الرقمية في محرك البحث «غوغل». إن وضع المستخدمين وجهاً لوجه، والاستيلاء على صورهم وموضعتها جغرافياً، لاحقاً، يُجرى من دون أي إذن منهم، ما يمثل انتهاكاً خطيراً لحقوقهم الشخصية. وكذلك صار «شات روليت» مرتعاً لانتهاك حقوق التأليف. هناك أعداد كبيرة من المستخدمين، ينشرون أفلاماً لم يصوروها، بل أعدوها من خلال الاستيلاء على محتويات أفلام خاضعة لحقوق التأليف. يشمل هذا الانتهاك، أشرطة الفيديو كليب وأفلام السينما. وبديهي القول إن هذه الممارسات شائعة أصلاً على الانترنت. وزادت حدّة مع «شات روليت». وتبدو السلطات عاجزة عن التصدي لها. فكيف (وضد من) تتقدم بالشكوى؟ وارتكازاً إلى أي قاعدة؟ ومن هي السلطة القضائية التي ستبحث في الشكوى؟ يقود ذلك إلى تكريس «شات روليت» المنطقة الأكثر ارتياداً والأكثر فوضى حقوقياً، ربما منذ بداية الإنترنت. وفي هذا السياق، يرى «جهاز مكافحة الجريمة على الإنترنت» SCOCI، وهي وحدة تتبع «مكتب الشرطة الفيديرالية» («فيدبول»fedpol ) في سويسرا، ان الموقع مصدر قلق بالغ فعلياً. ويقول ستيفان كونفرمان الناطق الرسمي باسم «فيدبول»: «إن الطابع العابر للدول ل «شات روليت» يجعل الملاحقات بحق القيمين عليه أمراً شاقاً، بل مستحيلاً... إن مصمم الموقع قد جعل البنية التحتية فيه غير قابلة لتعقب عناوين حواسيب مستخدمي الموقع، ما يعيق ملاحقة المشتبه بانتهاكهم حقوق المُلكيّة الفكرية وإحالتهم إلى سلطات البلد المعني». وقد يفرح البعض بهذا الشجار غير المتوقع، لكن «شات روليت» سيصنف باعتباره ملاذاً للسياسة الفاسدة، لأنه يحفّز المثل الفوضوية على شبكة إنترنت. والحق أن الحرية لا يمكن فهمها إلا بالارتباط مع المسؤولية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالصحة النفسية والجسدية للقاصرين. وإذا كانت السلطات عاجزة حيال ظاهرة بهذا الاتساع، فلا يجوز أن نبخس الأثر الإيجابي للسلوك الذاتي في مواجهة موقع يعبر عن طغيان الميديا. من الصعب ان نتصور رأسمالاً يخاطر بالاستثمار في خدمة «متفجرة» حقوقياً من نوع «شات روليت». وأخيراً، أعرب فريد ويلسون، راعي موقع «تويتر»، عن رغبته بالانتفاع من «شات روليت». فهل يؤدي ذلك الى نقل ممارسات احترام الخصوصية الشخصية من موقع «تويتر» الى «شات روليت»؟