يعدّ برنامج «مراسلون» على القناة الثانية في التلفزيون السويدي، للصحافي بينغت لارس فيلهلم نوربورغ، أحد البرامج الاستقصائية التي ذاعت شهرتها مع انطلاق البث الفضائي. يمكن القول إن نوربورغ الذي خبر «فن الاستقصاء الصحافي المتلفز» في أماكن مختلفة في الشرق الأوسط، وأفريقيا، ومنطقة البلقان إبان انفجار حرب يوغوسلافيا مطلع تسعينات القرن العشرين صار يمتلك خبرة واضحة في هذا المجال. قبل أيام عرضت القناة حلقة مصورة عن مدينة كوباني (عين العرب) التي عاشت على وقع معارك طاحنة امتدت على مدى عام تقريباً، بين حصار وتهجير، وجرى تدمير ثمانين في المئة منها قبل أن يتمكن المقاتلون الأكراد من طرد مقاتلي تنظيم «داعش» منها. كوباني حظيت بشهرة كبيرة تلت هذه المعارك، ربما لم تضاهها شهرة أي مدينة سورية أخرى عانت ويلات الحرب عبر السنوات الماضية. صار هناك أغنيات باسمها. يمكن الاستماع إليها عبر شريط نوربورغ الذي جرى تصويره فيها وعبر السهول المحيطة بها حيث يقيم الأكراد احتفالاتهم بمناسبات مختلفة. لم يكن ممكناً معرفة كيفية تحول حياة الناس العاديين وسير نشاطاتهم الميدانية اليوم من دون تكثيف تلك اللحظات العيانية التي قام بها صاحب «مراسلون». الكاميرا التي تعكس وجهة نظر نوربورغ كانت تتوغل في المدينة شبه المدمرة وفي أرواح من بقي فيها من أهلها بقلق واضح، قبل أن تسترد شيئاً من عافيتها، وتعود للملمة الجراح التي أوقعها بها تنظيم «داعش» الإرهابي. عاد نصف سكانها تقريباً، وعادت المياه والكهرباء، ولكن مصير النصف الباقي منها بقي غير معروف إلى حد ما. هُجِّر منهم من هُجِّر: أقليات وإثنيات تصاهرت وعاشت جنباً إلى جنب وحدث أن فاجأتها الحرب، فتفككت عقدة هذه المصاهرات، وصار جيران اليوم عبر التداعيات التي تثيرها المذابح في النفوس أعداء متنافرين. لا يتفلت الصحافي السويدي من مسؤولية متابعة بعين يقظة لما يحدث أمامه. يميط اللثام عن أحوال المدينة عبر عيني الفتى الكردي آزاد (25 سنة) الذي يعمل في مطعم للكباب المشوي. ويتحول في أقل من ثانية لمقاتل يمتلك بندقية وقنبلة ووحدة نارية تكفيه لمعركة. يقول آزاد الذي لم يتمكن من إكمال دراسته الجامعية في دمشق بغضب إن المعركة مع تنظيم «داعش» كانت مكلفة، فقد استمرت على مدى عام تقريباً، وكلفت الكثير من الأرواح. أزاد الذي يتنقل ببراعة بين مكونات اللحم المشوي المعد للبيع يتنكب بندقيته حين يجيئه اتصال هاتفي من مسؤوله في الجبهة للقتال. يعي تماماً أن المعركة لم تنته عند هذا الحد. يمكنه اختيار عدة الحلاقة وأقراص الصداع. ليس جرح كوباني التي تنوس في الفيلم بين اسميها الكردي والعربي هو وحده المفتوح هنا في هذا المدى. الحرب أكلت الأرواح المجاورة وصار الانتقال بينها بمثابة حلم. تماماً مثل «انتقالات» نوربورغ نفسه في مفاصل فيلمه: هنا دار الأوبرا في دمشق. تبدو الصورة مختلفة تماماً على رغم الأسى الذي تعكسه تلك العائلة الدمشقية التي يئن أفرادها تحت وطأة القذائف التي تستهدف العاصمة السورية في شكل دوري. نجح الأكراد في وقف هياج «داعش». لكن إعادة ترميم النفوس التي تعبت ونالت منها الحرب تبدو متعبة ومكلفة في آن. تبدو أحوال آزاد وكأنها اختصار أو تفسير لكل ما قيل عبر «مراسلون». البرنامج الذي ينتقل بصاحبه عبر المناطق المشتعلة والمتفجرة، كما تنتقل النار في الهشيم. النار التي لا تزال تحرق كوباني، أو عين العرب، كما يحلو لبينغت لارس فيلهلم نوربورغ أن يفعل ويتنقل بين العنوانين، وواضح أنه لم يحسم خياراته كلها بعد.