قد يصح التأكيد أن موروث الاحتقانات المذهبية والسياسية والآيديولوجية في الذهن الجمعي العراقي يشكل مصدراً مقيتاً لتغذية نيران الأزمة السياسية الراهنة بمزيد من الحطب. يصح أيضاً أن تدخلات دول الجوار، خصوصاً إيران وتركيا، تعيق قيام فضاء طبيعي من العلاقات بين المكونات السياسية العراقية، ما يدفع بنسيج تلك العلاقات الى مزيد من التأزم والتردي الأمني والانقطاع السياسي. لكن ما هو أصح من كل هذا أن أميركا التي تولت قواتها تحرير العراقيين من نظامهم السابق عام 2003، فيما تتهيأ الآن لسحب قواتها من أراضيهم، تتحمل بدورها جزءاً حيوياً من مسؤولية ما يتعرض له العراق من خلافات وتجاذبات مدمرة بين كتله الفائزة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. الأرجح أن بعضاً من العراقيين أخطأ في طريقة التعامل مع عملية تحرير بلادهم. والبعض الآخر أخطأ في كيفية التعاطي مع العملية السياسية الجديدة التي أعقبت التحرير. أما في خصوص الأزمة الأخيرة، فالواضح أن خطأ الكتل السياسية العراقية كبير. مع هذا، يظل حقيقياً القول إن مرد المسؤولية الأميركية هو أن واشنطن، التي دأبت لسنوات غير قليلة على رفض تحديد أي سقف زمني لسحب قواتها من العراق، أصبحت الآن تركز في شكل لافت على عزمها سحب تلك القوات في الموعد المقرر في آب (أغسطس) المقبل. في الواقع، تحدد الاتفاقية الإستراتيجية الموقعة بين واشنطن و بغداد قبل نحو سنتين، مواعيد واضحة للانسحاب الأميركي. لكن المشكلة أن دولاً في الجوار العراقي تعيش مشكلات متفاقمة مع واشنطن، كإيران على سبيل المثال، شرعت في استغلال الملامح الأولية للانسحاب القريب في اتجاه تجميد الوضع السياسي العراقي وإدخاله في دهليز مظلم من الصراعات والخلافات اللامجدية الى حين خروج الأميركيين. ما يدعو الى هذا أن تلك الدول على قناعة راسخة بأن إبقاء العراق في تيهه السياسي وفراغه الدستوري الحالي، ريثما تستكمل الولاياتالمتحدة عملية الانسحاب، يمنحها فرصة ذهبية لتحضير مستلزمات ابتلاع العراق في مرحلة ما بعد استكمال الانسحاب. وفي بغداد، يفسر أكثر من مراقب حالة الصمت الإيراني حيال ما يحدث في العراق من صراعات وتجاذبات بأنه محاولة إيرانية واضحة لحضّ أميركا على الاستعجال في سحب قواتها وترك العراق لنفوذ طهران. ومن دون شك، تتصرف أميركا في جزء أساسي من سياستها العراقية وفق مصالحها وسياساتها في الشرق الأوسط. فملف صراعاتها مع إيران وملف عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إضافة الى ملف الحرب في أفغانستان، تمثل أولويات أميركية فائقة الأهمية. لكن الأرجح أن واشنطن تخطئ في شكل فادح إذا تصورت أن أهمية الملف العراقي بالنسبة الى مصالحها وسياساتها في الشرق الأوسط قد تراجعت، وأن الحاجة لم تعد تتطلب بقاء قواتها القتالية في العراق الى ما بعد المواعيد التي تحددها الاتفاقية الإستراتيجية. لا جدال في أن لواشنطن أسباباً وجيهة تدفعها الى استعجال عملية الانسحاب العسكري، فيما فعلت ما في وسعها لتحرير العراقيين من شرور النظام السابق. أما إعادة بناء العراق سياسياً، بعد ثماني سنوات على استكمال التحرير، فهي ليست أكثر من شأن عراقي بحت، ولا حاجة في هذه المرحلة لإبقاء القوات الأميركية داخل الأراضي العراقية. لكن المشكلة أن واشنطن لا تحسب أن ما تم تحقيقه بالجهد الأميركي، في إطار التحرير، يقتصر على الصفحة العسكرية. أما الصفحة السياسية، أي تأهيل العراق سياسياً، فإنها لا تزال في حاجة ماسة الى جهد سياسي وديبلوماسي أميركي مدعوم بقوات عسكرية. هذا على رغم العدد اللافت من العمليات الانتخابية التي خاضها العراقيون خلال السنوات الثماني الماضية، ونجاحهم في سن دستور دائم عام 2005. قصارى القول إن العراق يعيش اليوم أزمة مدمرة قد تعصف لا بحياته وعمليته السياسية فحسب، بل بمستقبل دولته أيضاً، ما يستوجب استمرار الوجود الأميركي، السياسي والعسكري، الى ما بعد المواعيد التي تنص عليها الاتفاقية الإستراتيجية الموقعة بين البلدين. هذا الوجود، على رغم مدلولاته السلبية وتأثيراته غير الحميدة على سيادة العراق، فإنه قد يساعد العراقيين لا في الخروج من الأزمة الحالية فحسب، بل في حفظ وحدة الدولة وتأسيس عملية سياسية متوازنة وسليمة قد تفتح أمام العراقيين أبواب التأهيل الداخلي والخارجي. في كل الأحوال، لا بد لأميركا أن تأخذ في الاعتبار أن الأزمة الراهنة في العراق ليست آخر أزماته الكبيرة، بل يمكن للتداخل الحاصل بين الشأنين الداخلي والخارجي الاقليمي، أن يفرز، في الفترة التي تعقب انسحاب القوات الأميركية، أزمات أكثر هولاً وتدميراً قد تدفع بالدولة العراقية، التي تحرص واشنطن على الاحتفاظ بوحدتها، الى قلب عاصفة عاتية من التفكك والانحلال. * كاتب وسياسي كردي عراقي.