تراهن النخب السياسية العراقية التي فازت في الانتخابات منذ اكثر من ثلاثة أشهر، على الوقت لانتزاع تنازلات من بعضها بعضاً. وتجازف في الوقت ذاته بخسارة ثقة الشارع الذي يربط بين فشلها وتراجع الأمن والخدمات. وتفتح مغامرة استمرار تأخير تشكيل الحكومة وتصاعد الخلافات بين الأطراف المعنية بالعملية السياسية الباب لفعاليات شعبية كي تعبر عن غضبها. وقد تكون الاحتجاجات على سوء التيار الكهربائي الشرارة الأولى. وتعتبر استقالة وزير الكهرباء كريم وحيد، اثر تظاهرات شهدت مواجهات دامية في مدن الجنوب، اول نجاح للتحركات الشعبية في فرض استقالة مسؤول منذ عقود وتعكس، من جهة اخرى، مخاوف رسمية عميقة من انطلاق حركات شعبية غاضبة لن تتوقف بإعلان استقالة وزير. ويربط رجل الشارع بين تشكيل الحكومة وتقديم الخدمات الأساسية شبه المعدومة، على رغم المخصصات المالية البالغة 140 بليون دولار لتطوير قطاعات الكهرباء والماء والمواصلات والطرق والبنى التحتية. وتقول المصادر ان رئيس الوزراء نوري المالكي طلب من وحيد الاستقالة بعد حصول المتظاهرين على تأييد ديني وسياسي واسع، دعمه بيان اصدره المرجع الشيعي آية الله الشيخ بشير النجفي قال فيه بوضوح "نعبر عن الموقف الشرعي في هذه المسألة، وهو ان من حق الشعب المطالبة بتحسين الخدمات بالتعبير السلمي والقانوني، ويمكن للشعب اللجوء إلى التظاهر والاعتصام. ونحن نؤيد أبناء شعبنا الأبي في مطالبه المشروعة". وتؤشر حال الفوضى التي عمت الإدارات المحلية في جنوب العراق ووصلت إلى وزارة الكهرباء التي تولاها بالوكالة وزير النفط حسين الشهرستاني إلى قلق متزايد من انفلات الشارع. وكانت حكومة البصرة، حيث انطلقت اولى الاحتجاجات والمصادمات لتمتد منها الى مدن اخرى، اقدمت على محاولة قطع التيار الكهربائي عن الأحزاب ومنازل المسؤولين وبعض المعامل الحكومية لتوفير التيار للأهالي لامتصاص الغضب، فيما اعلن الوزير البديل قطع الكهرباء عن المنطقة الخضراء والمسؤوليين للهدف ذاته. احد المقربين من رئيس الوزراء العراقي قال:"من الصعب استخدام قضية الكهرباء لاستعداء الشارع على المالكي كجزء من مناورات تشكيل الحكومة الجديدة". لكن المشكلة الأساسية، كما عكستها المواجهات الأخيرة تتعلق باستياء عام من دخول الوسط السياسي مرة اخرى في تعقيدات المحاصصة الطائفية والعرقية التي كان تعهد خلال الانتخابات الأخيرة تجاوزها. والمجازفة، كما يعبر عنها استاذ العلوم السياسية ياسين البكري: "هي في اهمال الوسط السياسي وجهة نظر الشارع وافتراض تقبله لحكومة تقوم على ذاتها التي لحكومة المالكي عام 2006 ، وبعد نحو خمسة أشهر على الانتخابات البرلمانية آنذاك". ويلاحظ من احاديث السياسيين العراقيين انهم يتلمسون خطورة مراهنتهم على الوقت لانتزاع تنازلات في ملف تشكيل الحكومة. وفيما يراهن "الائتلاف الوطني" على إجبار"ائتلاف دولة القانون" على تخلي زعيمه نوري المالكي عن ترشيحه لولاية جديدة، يراهن المالكي على الوقت أيضاً ايضاً لإجبار حلفائه في "التحالف الوطني" الجديد ومنافسه اياد علاوي على القبول به رئيساً للحكومة، من خلال انشقاقات داخل تلك الكتل التي كان اعتبرها ضمناً في حديث سابق الى "الحياة" اقل تماسكاً من كتلته. كتلة علاوي من جانبها تراهن على نشوب الخلافات داخل التحالف الشيعي الهش، وإجبار المنافسين على قبول مفهوم الكتلة الأكبر باعتبارها الكتلة الفائزة في الانتخابات، فيما يعتقد الأكراد ان الوقت لا يلعب ضدهم، ويراهنون على تكريس التفاهمات حول شروطهم لتولي رئاسة الجمهورية ونيل 25 في المئة من الحكومة المقبلة، بالإضافة الى تعميق التفاهمات حول مستقبل كركوك والمناطق المتنازع عليها وهي قضية معلقة منذ سنوات. والثابت، من خلال المشاورات التي اجراها مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان في بغداد اخيراً ان اياً من الأطراف لا يمتلك حتى اليوم تصوراً محددة للخروج من الأزمة. وعلى رغم قول المالكي اول من امس أن هدف الدعم السياسي لحركات الاحتجاج الشعبية التي تنتقل من مدينة الى اخرى اضعاف موقف قائمته عبر تقويض شعبية حكومته، فإن حركة التذمر التي رفعت شعار توفير الخدمات مؤهلة للتصاعد في ظل وضع امني هش قابل لإحياء اعمال العنف ، على ما قال اللواء مهدي الغراوي الذي أكد ان المؤسسة الأمنية غير مستعدة للتعامل مع تحركات شعبية غاضبة وكبيرة. ويعترف سياسيون، منهم المالكي الذي وجه انتقادات إلى حلفائه ومنافسيه واتهمهم بالسماح بالتدخل الخارجي في مفاوضات تشكيل الحكومة، بأن العامل الإقليمي لديه بدوره رهاناته على الوقت للحصول على فرص افضل لتسويات اقليمية حول قضايا المنطقة قبل الشروع في التسويات على ارض الرافدين. لكن الوقت لا يلعب لمصلحة تعهدات الرئيس الأميركي باراك اوباما بالانسحاب من العراق. ومن المفارقة ان يكون الشعب العراقي والإدارة الأميركية هما الطرفان الأكثر استعجالاً لتشكيل الحكومة.