قد يكون الجنرال ماكريستال خرق قواعد التعامل العسكرية الصارمة وأصول اللياقة المدنية على السواء بتوجيهه انتقادات شخصية خارجة عن المألوف وعلنية الى الرئيس باراك أوباما وكبار معاونيه المعنيين بالملف الأفغاني، وقد يكلفه ذلك منصبه كقائد عام للقوات الحليفة في افغانستان، لكن الرجل كان يدرك تماماً ما يقول ويحسب أبعاده وردود الفعل المتوقعة عليه، ولهذا أصر على نشر ملاحظاته عندما راجعته ادارة المجلة التي اجرت المقابلة معه قبيل صدورها، بعدما وجد ان الادارة في واشنطن اسقطت عليه وعلى جنوده ترددها وضعف قرارها، فحمّلته مسؤولية إيجاد حلول للمأزق الذي تواجهه القوات الاطلسية في "بلد الفساد والأفيون" لكنها عملت في الوقت نفسه على عرقلة مقترحاته والالتفاف عليها كلما سنحت لها الفرصة. تصريحات الجنرال جعلته يشبه الشخصية المعذبة في لوحة "الصرخة" للفنان النروجي ادفارت مونك، اما السماء الحمراء الدموية التي تعلوها فليست سوى افغانستان التي عادت "طالبان" تحكمها في الليل وفي ردح من النهار، فيما عملياتها تتكثف وخسائر الاطلسيين البشرية تزداد. لم يجد هذا العسكري الذي أمضى 35 سنة من عمره في الجيش سوى هذه الوسيلة ليوصل صوته الى الاميركيين العاجزين حتى اللحظة عن فهم ما اذا كان جيشهم يخوض حرباً هناك او حملة "علاقات عامة" لتحقيق مصالحة بين أكبر واغنى قوة على وجه الارض ورجال الملا عمر ذوي الثياب الرثة واللحى المسترسلة المقيمين في الكهوف. ليس سراً ان أوباما سعى منذ اليوم الأول لتوليه الرئاسة الى فك الارتباط بالحروب الجمهورية التي ورثها، معتبراً ان الأولوية هي لإعادة بناء الداخل الأميركي وعكس مسار التدهور الحاصل في هيبة الولاياتالمتحدة. وفيما كانت تبريرات قرار الانسحاب من العراق جاهزة ومقنعة لأن هذا البلد لم يحارب اميركا اصلا ولم يهددها، بدا الوضع في افغانستان التي احتضنت مخططي اعتداءات 11 أيلول اكثر تعقيداً وإرباكاً. وعندما جاء ماكريستال الى البيت الابيض قبل عام تقريباً لإقناع أوباما بأن إبراز العضلات الاميركية هو الوسيلة الوحيدة لجعل "طالبان" توافق على إنهاء القتال والدخول في تسوية، وانه لا بد من تعزيز دور الرئيس الافغاني حميد كارزاي رغم نواقصه، لأنه لا يمكن معاداة كل الأفغان في وقت واحد، وجد اوباما متردداً في اتخاذ قرار ارسال المزيد من القوات، ليس فقط لأن ذلك يعارض استراتيجية الانكفاء التي يتبناها، بل ايضاً لأن افكاره عن هذا الملف كانت مشوشة بفعل التدخلات الكثيرة لأقطاب الادارة. فوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تسعى الى تثبيت دور الموفد الخاص الى افغانستان وباكستان ديفيد هولبروك الذي دعم بقوة معركتها داخل الحزب الديموقراطي للترشح الى الرئاسة. اما السفير في افغانستان كارل ايكنبيري فكان قائداً للقوات الاميركية في هذا البلد حتى 2007، ويتصرف باعتباره خبيراً محلفاً في شؤونه. وكانت تقارير هذين الرجلين تركز على استحالة التعامل مع الرئيس الافغاني بسبب فساده وتدعو الى إيجاد بديل منه، عاكسة جهلاً بتاريخ افغانستان وتركيبة المصالح القبلية فيها. لكن نظرية ماكريستال عادت فلاقت استحسان الرئيس عندما تبين انها تخدم هدفه النهائي، اي الانسحاب. وقرر اوباما إرسال 30 الف جندي اضافي، بالتزامن مع نسج الجنرال تعاوناً وثيقاً مع كارزاي لبناء الجيش الافغاني، ولإطلاق مبادرات "حسن نية" تجاه "طالبان" والفصائل الداعمة لها، اثمرت خلخلة واضحة في الجبهة المناوئة لكابول. وبدا ان الأمور تسير الى تحسن مع الحملة العسكرية الناجحة في مرجة، إلى ان عاد التلكؤ ليطغى على قرار واشنطن، إن لجهة ارسال القوات الاضافية او لجهة التعامل مع كارزاي، فبدا جهد ماكريستال معلقاً في الهواء ومهمته مهددة بالفشل، وهو ما استفادت منه حركة التمرد التي ضاعفت وتيرة عملياتها ورفعت نوعية هجماتها موقعة المزيد من الخسائر. وسرعان ما توسعت رقعة التشكيك في امكان ربح الحرب الى صفوف الجيش الاميركي نفسه، بالتزامن مع اعلان عدد من الدول المشاركة في القوة الاطلسية رغبته في الانسحاب، فعجل ذلك في خروج ماكريستال عن الانضباط الذي يفترض ان يطبع سلوك اي عسكري ازاء قيادته السياسية. لكن هل تكفي صرخته لإخراج أوباما من تردده ووقف هذا الارتباك الذي يذكّر بالأيام الاخيرة للمغامرة السوفياتية في افغانستان؟