قضى جليل بلغم أرضي مخصص للعربات الثقيلة قبل نحو شهر بينما كان يقود حافلته لإيصال إمدادات للقوات النظامية السورية في العتيبة. العتيبة ليست منطقة حدودية، لكنها باتت منطقة للنزاع بين قوات النظام وقوات المعارضة. ويعتبر انتشار الألغام فيها تهديداً خطيراً كونها مأهولة ولا يمكن تحديد نطاق حركة المدنيين فيها. خلال الأعوام الماضية، لم تكن الألغام تشكّل هاجساً في سورية الا لسكان المناطق الحدودية مثل محافظة القنيطرة التي لا تزال أراضيها «حبلى» بألغام زرعت منذ حقبة الإحتلال الإسرائيلي للمدينة واستمرت بحصاد أرواح عشرات سنوياً وخصوصاً من الأطفال. أما اليوم، فبات خطر الألغام يهدد سكان مناطق كثيرة تشهد نزاعات دامية، ولا يتورع المتقاتلون فيها عن استخدام شتى الوسائل القذرة لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف الخصم، والألغام واحدة منها. وسيلة ردع! يكفي أن تشيع بأن هناك منطقة مزروعة بالألغام أو حقل ألغام حتى تصبح محظورة على البشر، وبالتالي يمتنع الناس عن الاقتراب منها على رغم أنها قد تكون خالية تماماً من الألغام. ونقل عن سكان في محافظتي إدلب وريف دمشق قيام القوات الحكومية بزرع ألغام لمنع الناس من الانتقال إلى الجانبين التركي أو اللبناني أو العبور منهما، بهدف وقف تدفّق اللاجئين إلى الخارج ومنع وصول المقاتلين الأجانب إلى الأراضي السورية. كما أكدت تقارير إعلامية عمليات نزع ألغام وتفكيكها زرعتها كتائب الجيش السوري الحر في درعا وفي مناطق متفرقة في ريف دمشق خلال العام الماضي، لقطع الطرق التي تربط المدن السورية التي تسيطر عليها القوات النظامية. لكن هذا الأمر إذا ما استمر استخدامه في شكل ممنهج يتحول إلى كارثة حقيقية ستتوالى فصولها إلى سنوات كثيرة مقبلة، خصوصاً أنه في الوقت الذي سجل160 بلداً انضمامه إلى معاهدة العام 1997 التي تحظّر في شكل شامل وتام استخدام الألغام المضادة للأفراد وإنتاجها والاتجار بها وتخزينها، تبدو سورية وكأنها تسير عكس التيار بإصرارها على عدم الانضمام إلى الاتفاقية، والتي يُعتقد أن المرة الأخيرة التي استخدمت فيها الألغام المضادة للأفراد قبل الأزمة الحالية كانت في حربها مع إسرائيل في لبنان عام 1982. وإستشعاراً برهبة المسألة والتبعات الخطيرة التي قد تجلبها الألغام على الأفراد والمدنيين عموماً، تداعى ناشطون لتأسيس المركز السوري لإزالة الألغام وإعادة التأهيل، ومقره الأردن. لكن نشاطه توقّف بعد مدة قصيرة بسبب نقص التمويل كما يؤكد القائمون عليه من خلال صفحتهم على ال «فايسبوك»، ما يُعتبر تراخياً في التعاطي مع هذه المسألة الحساسة، وما شجع المبادرات الفردية العفوية للتصدّي للأمر في المناطق الأكثر عرضة لخطر الألغام كما حدث في الحسانية في ريف إدلب، عندما أقدم 4 متطوعين بخبرات بسيطة على إزالة نحو 300 لغم مضاد للأفراد طراز (بي إم إن - 2) بالقرب من الحدود التركية. كما نشرت صحيفة «واشنطن بوست» في العام الماضي صورة لألغام مضادة للأفراد (بي إم إن - 2) وألغام مضادة للمركبات (تي إم إن - 46)، وأوردت إن الجيش السوري زرعها على مشارف قرية هيت قرب الحدود مع شمال لبنان، قبل أن ينزعها ناشطون سوريون ولبنانيون. «إرث» حروب وتعتبر مخلفات الحروب وأكثرها خطورة الألغام أحد أبرز المشاكل التي تواجه المدنيين، بعد أن تضع المعارك والمواجهات والنزاعات أوزارها. فمخلفات الحرب العالمية الثانية من ألغام وقذائف مطمورة لا تزال تحصد مئات المدنيين على رغم مرور سبعة عقود على انقضائها والتطورات الكبيرة التي طرأت على علم الهندسة وتقنيات عمل فرق نزع الألغام التي نجحت في تقليل أعداد الضحايا. لكن هذا التطور قد يذهب أدراج الرياح في ظل خرق بلدان لاتفاق حظر الألغام، وفي ظل عدم وجود خرائط دقيقة لنطاقات الانتشار الجغرافي للألغام المزروعة لا سيما إذا ترافقت مع عجز في قدرات الدولة على إدارة مناطقها، كما هي الحال في بلد مثل سورية.